نوح سميث
كاتب في «بلومبيرغ»
TT

تحطيم الأصنام الاقتصادية

خلال السنوات الأخيرة بدأت تثار تساؤلات حول عدد من الأفكار الاقتصادية التي كانت تعد مقدسة في وقت سابق. والملاحظ أن الأزمة المالية و«الركود الكبير» دفعا بالكثير من المسلمات التقليدية المرتبطة بالنشاط الاقتصادي الكلي والصعيد المالي إلى سلة المهملات. واليوم، ثمة أدلة جديدة تشكك في صحة مجموعة متنوعة من الأفكار الأخرى. على سبيل المثال، توحي دراسات أجريت في الفترة الأخيرة بأن أسواق العمل لا تعمل في حقيقة الأمر على النحو الذي لطالما اعتقده علماء الاقتصاد، وأن الاقتصاديات المتقدمة أقل تنافسية بكثير عما سبق اعتقاده.
ومع هذا، سوف يستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تقدم كتب علم الاقتصاد على التخلص من أفكار ومسلمات ظلّت قائمة لعقود، خاصة أن ثمة قاعدة عامة تشير إلى أن علماء الاقتصاد لا يسارعون أبداً إلى إقرار أي تغيير.
ومع هذا، يبقى هناك شعور بأن ثمة تغييراً بدأ يطرأ على التوجهات إزاء سياسات مثل الحد الأدنى للأجور ومحاربة الاحتكار داخل المجال الاقتصادي المتخصص ذاته. ونظراً لأن تلك تعتبر سياسات ضخمة ومهمة تؤثر على حياة الملايين، فإن أي تحول مهما كان بسيطاً في الإجماع العام بين المتخصصين بالحقل الاقتصادي قد يترك تداعيات كبرى.
والتساؤل هنا: ما القوى التي سمحت لهذا التغيير بالحدوث؟ سيقول الكثيرون إنه نتيجة ثورة تجريبية في علم الاقتصاد، ذلك أنه مع تقدم تكنولوجيا المعلومات وتيسيرها عملية معالجة أطنان من البيانات رفيعة الجودة، أصبح باستطاعة علماء الاقتصاد مراقبة، على نحو مباشر، الصورة التي يعمل بها العالم، بدلاً من مجرد تخيل كيف ينبغي له العمل. وعليه، تتولى الأبحاث العملية اليوم أخذ زمام الأمور على الصعيد المعرفي الاقتصادي من النظريات.
ورغم صحة هذا الطرح بالتأكيد، فإن الواقع يشير كذلك إلى محدودية ما يمكن للبيانات العملية شرحه فيما يخص التفاعلات الداخلية في الاقتصاد. ومثلما هو معروف للجميع، فإن الارتباط لا يعني بالضرورة السببية. إذا ما عاينت ارتفاع معدلات التضخم في وقت ينمو الاقتصاد بمعدل أسرع، فإن هذا ربما يعني أن النمو يسبب التضخم، أو أن التضخم يسبب النمو، أو ربما لا صلة لأي منهما بالآخر.
ومن أجل أن تحدد ما يسبب ماذا، تحتاج إلى ما يطلق عليه علماء الاقتصاد تجربة طبيعية. ويعني ذلك بصورة أساسية أنك بحاجة لأن تتبدل السياسات على نحو عشوائي. وإذا ما حدث ذلك، فإنه سيصبح لديك ثقة أكبر بكثير حينها بأن التغييرات التي تراها هي بالفعل نتاج للتغييرات التي طرأت على السياسات.
على سبيل المثال، لنفترض أنك ترغب في تحديد ما إذا كانت الهجرة تقلص أجور العمال المحليين، فإن التجربة المثالية بالنسبة لك ستتمثل فيما إذا أقدم ديكتاتور ما فجأة في دفع أعداد ضخمة من الفقراء للتدفق على مدينة أميركية ما. وهذا بالفعل ما حدث عام 1980 في ماريل بوتليفت. عندما وجد خبراء الاقتصاد أن قرار فيدل كاسترو المفاجئ بطرد عشرات الآلاف من الكوبيين، ما دفعهم للتدفق على ميامي لم يؤد إلى تقليص الأجور الخاصة بالأميركيين المولودين داخل الولايات المتحدة ممن يعملون في المدينة - وعندما أظهر عدد كبير من الدراسات التي أجريت حول موجات الهجرة اللاحقة للاجئين بمختلف أرجاء العالم النتائج ذاتها - قلل هذا بدرجة كبيرة من قلق الخبراء الاقتصاديين حيال التكاليف الاقتصادية المترتبة على الهجرة.
بيد أن الأمر أكثر صعوبة فيما يخص سياسات مثل الحد الأدنى للأجور. داخل دولة ديمقراطية تسير على نحو جيد مثل الولايات المتحدة، ثمة شحّ شديد في الحكام الاستبداديين المجانين. وإذا ما قررت مدينة مثل سياتل أو سان فرنسيسكو زيادة الحد الأدنى للأجور بها، فإن التوقيت ربما يكون عشوائياً أو ربما يصدر القرار لأن الاقتصاد قوي للغاية لدرجة تدفع السياسيين للاعتقاد بأن بمقدوره تحمل قليل من التدخل الحكومي.
وهنا، يأتي دور حملات النشطاء. في سياتل وغيرها، جاءت الزيادات الأخيرة في الحد الأدنى للأجور جراء ضغوط جماهيرية مارسها نشطاء. جدير بالذكر هنا أن حملة «قاتلوا من أجل 15» والتي طالبت برفع الحد الأدنى للأجور إلى 15 دولاراً للساعة، خرجت من رحم موجة غضب عام على المستوى الوطني، إزاء تجمد الأجور نتيجة الثقة بالاقتصاد المزدهر. وعليه، تشكل الزيادات الأخيرة التي طرأت على الحد الأدنى للأجور تجربة جيدة على نحو خاص.
إلا أنه ربما يكون هناك سبب أعمق وراء كون النشطاء والأصوات المنشقة يشكلون المفتاح الذي يعين الخبراء الاقتصاديين على معرفة المزيد حول العالم. إذا ما التزم صناع السياسات فقط بالإجماع الاقتصادي القائم، فإن هذا يعني أنه لن يجري تجريب أمور جديدة، ولن يجري تجريب نظريات جديدة إذا لم يحاول أي شخص تجريب شيء مختلف عن النظرية القائمة والمتبعة. وعليه، فإنه عندما تضغط أصوات تغرد خارج السرب نحو إقرار سياسات تخالف الإجماع القائم، تتاح فرصة تعلم درس جديد.
وتبدو قضية الحد الأدنى للأجور مثالاً جيداً على ذلك، ففي الوقت الذي يكيل المتشككون باستمرار، الانتقادات المنطوية على قدر واضح من الازدراء باتجاه النشطاء الذين يطالبون بزيادة الحد الأدنى للأجور ويتهمونهم بتجاهل أساسيات علم الاقتصاد، نجد أن إجراءات رفع الحد الأدنى للأجور مستمرة، وحتى الآن يبدو أن الأمور تسير على ما يرام.
بطبيعة الحال، من الطبيعي تماماً ألا تفلح بعض التجارب بعض الأحيان. على سبيل المثال نجد أن إجراءات السيطرة على الإيجارات تساعد بعض المستأجرين الحاليين، لكنها تخلف تداعيات سلبية كبيرة على الكثير من سكان المناطق الحضرية. ويؤكد ذلك أنه أحياناً يكون الرأي الذي يلتف حوله الإجماع القائم، الصواب.
ومع هذا، يبقى من الضروري الإقرار بأن المشككين والآيديولوجيين يلعبون دوراً أساسياً داخل المعمل الذي يأمل الخبراء الاقتصاديون في أن يمارسوا داخله العلم الحقيقي.

*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»