د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

مدنيّة الدولة أكبر ضربة للإسلام السياسي

لقد أسهم الإسلام السياسي بتنظيماته المختلفة وعلى رأسها تنظيم الإخوان في خلق حالة الاضطراب الثقافي الديني الذي تعاني منه مجتمعاتنا اليوم. ذلك أن هذا التنظيم قام على مشروع فكري، يُقفل كل الأبواب على العقل والانفتاح والاجتهاد وجعل الفكرة المحور شمولية الدين الإسلامي، التي تحمل بدورها نمط تفكير التنظيم وآليات بلوغ أهداف المشروع.
فالتنظيم الإخواني يعد أخطر أشكال الإسلام السياسي لما تميز به من تنظيم وانضباط حزبي، وأيضا أثبت أنه طويل النفس، وإضافة إلى ذلك تمكن من ممارسة الحكم ومن بروزه في المعارضة. هذه النقاط أهلته للتغلغل ولاكتساب قاعدة شعبية في بعض أماكن مكنته من الوصول إلى الحكم. كما أن طموح الإخوان للحكم كشف عن أمرهم من ناحية التناقض في الخطاب إلى حد التصادم مع الأفكار المرجعية للحركة الإخوانية، ونقصد بذلك إيمانهم بالديمقراطية والكفر في المقابل بالآخر والحداثة وكل مكتسبات الحضارة الأوروبية الغربية. بل إنّهم بالنظر إلى أدبياتهم التأسيسية فإنهم لا يؤمنون بالدولة الوطنية. ولكن لأن الديمقراطية هي الطريق الوحيدة أمامهم لبلوغ الحكم، فإنهم أغدقوا عليها من المديح ما لا يتماشى وفكر الحركة بأي شكل من الأشكال. ولعل هذا الانحراف عن طبيعة المشروع الإخواني تحديداً والإسلام السياسي بشكل عام في خصوص مقاربتهم الإيجابية لمسألة الديمقراطية يعود إلى كون الديمقراطية تستسلم لمن يتحصل على غالبية الأصوات، وهو ما يتماشى وما تمكنوا من تحقيقه في مجال التغلغل الشعبي الواسع، من خلال الاستفادة من الرصيد السلبي للسياسات التنموية الضعيفة التي اعتمدتها كثير من دولنا العربية.
طبعاً يعرف التنظيم الإخواني منذ أشهر طويلة أزمة حقيقية بعد السقوط الكبير الذي حصل للتنظيم الأم في مصر، والمشاركة في الحكم بعد الثورة في مصر. ولكن السؤال: كيف يمكن مواجهة الإسلام السياسي بشكل حقيقي يتعاطى مع رأس المشكل لا ذيله؟
إننا نطرح هذا السؤال، لأن الخروج من لعبة الحكم لا يعني أن مثل هذه الأحزاب قد خسرت نهائياً وأنه تم قطع إمكانات عودتها بأي شكل من الأشكال. فكما أسلفنا القول فإن قوة هذه التنظيمات في رصيدها وخداعها للناس، ويكفي أن تتغير الظروف حتى يعود الاصطفاف والتنظيم بسرعة مذهلة وكأنهم لم ينقطعوا عن النشاط السياسي الإسلاموي. والرصيد الشعبي الذي أداروه بالمراوغة هو بقدر ما يمثل نقطة قوة الأحزاب الإسلامية، فهو نقطة ضعف غالبية الأحزاب المدنية في بلداننا.
من هذا المنطلق فإن الحرب على الإسلام السياسي لا يمكن خوضها على نحو تأسيسي جذري، إلا برفع سلاح المدنية وقيمها والإيمان بضرورة الدولة المدنية والدسترة الكاملة لمظاهر المدنية.
إنّه السبيل الأمثل لسد الطريق ولشد الخناق على هذه التنظيمات، وهكذا تصبح الديمقراطية التي ترى فيه خلاصها السياسي، مفتاحاً لنسف مشروعها ولتراجع البعد الدعوي إلى درجة تضرب قواعدها الشعبية التي ستلحظ تضحيتها بالديني من أجل البقاء سياسياً، وكيف ستنخرط مجبورة في المصادقة على قوانين هي من منظور مرجعيتها اعتداء على الشريعة والكفر بعينه.
فمن سينجح في لعبة الديمقراطية والوصول إلى الحكم سيجد نفسه أمام دستور يدافع عن دولة مدنية، ويخدم دولة مدنية ولا مناص من الرضوخ لأعلى سلطة قانونية ونقصد بذلك الدستور. وكلّما قطعنا شوطاً إلى الأمام في درب المدنية وبذلنا جهداً متقدماً في مسار المواطنة كانت الأحزاب الإسلامية أضعف وجاذبيتها أكثر ضعفاً. بل إنّها لن تكون أحزاباً إسلامية بمعنى أن الهوية التي بنت من خلالها هويتها السياسية ستذوب مع الدولة المدنية، وسيصبح بناء على ذلك - وهنا المفارقة - الإسلام السياسي بسبب إكراهات المشاركة السياسية مساهماً في المدنية، وأي خروج عن إطار الدولة المدنية وأي تعثر في مسار المواطنة القائم على عدم التمييز على أساس العرق أو الدين أو الجنس... سيهدد مشاركتها السياسيّة وهو ما يتناقض ومصلحتها الأساسية المتمثلة في المشاركة السياسيّة سواء من خلال الحكم أو الاعتراف بها ضمن الأحزاب المعارضة.
أظن أن الرّهان على قيم المدنية والاعتقاد في أنموذج الدولة المدنية سيكون بمثابة غلق الباب أمام الإسلام السياسي، وأيضا لا شيء يفقد الإسلام السياسي دوره مثل مدنية الدولة التي يتحرك فيها باعتبار أن المرجعية لن تكون أكثر من ديكور سياسي ومضمون انتخابي وأبعد ما يكون عن المشروع الذي يعد بالتغيير وفق مقاربة ضيقة للدين من جهة، وتستعمل الدين مطية من جهة ثانية.
وإلى جانب كون مدنية الدولة تمثل حلا سياسيا لقطع دابر الإسلام السياسي من الحكم والحقول السياسية بشكل عام، فإنه أيضا يضع المجتمع في بيئة ثقافية قيمية يصعب فيما بعد أن تدخلها مشروعات أثبتت فشلها وعداءها للدين أولا، ولتقدم البلدان العربية ثانياً.