سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

لو نشأ صاحب «فيسبوك» في مجتمع آخر!

وكأنه كان يوماً للاعتذار الكبير على شاطئي المحيط الهادي، ففي يوم واحد صدر اعتذاران سمع بهما العالم وتوقف أمامهما، لأن أحدهما كان سياسياً خالصاً، ولأن الثاني كان بعيداً عن السياسة بمعناها المباشر، ولكنها ظلت تختلط به، وتبدو بين ثناياه، وإنْ حاول صاحب الاعتذار أن يباعد بينه وبينها!
ثم كأننا كنا على موعد مع اعتذارين نرى من خلالهما معاً، أن الاعتذار تعبير عن ثقافة تراكمت لدى شعب، أكثر منه سلوكاً طرأ على مستوى فرد!
في الحالة الأولى خرج شينزو آبي، رئيس وزراء اليابان، باعتذار إلى كل اليابانيين، عن الإزعاج الذي تسبب به لهم، وعن القلق الذي أثاره لدى كل واحد فيهم!
وكانت اليابان تتحدث قبل الاعتذار بأيام، عن قطعة من الأرض باعتها الحكومة إلى مؤسسة تعليمية، وعن سعر خاص حصلت به المؤسسة على قطعة الأرض، وعن ضغوط وقعت من جانب زوجة رئيس الحكومة لخفض السعر إلى المستوى الذي بيعت به القطعة، لأن علاقة من نوع ما، تربط بين القائمين على المؤسسة التعليمية، وبين زوجة السيد شينزو!
إذا صحت الواقعة، فهي نوع من الفساد الذي ينتشر في بعض بلاد العرب، حتى يكاد يكون هو القاعدة، وما عداه استثناء!
ولكنه في بلاد مثل اليابان، بلاد الهاراكيري، لا يمكن أن يمر، حتى ولو كان من بين الاستثناء، فضلاً بالطبع عن أن يكون قاعدة لا استثناء. والهاراكيري طريقة من طرق الانتحار الخاصة بالثقافة اليابانية، وبها يتخلص الشخص هناك من حياته، خصوصاً إذا كان في موقع مسؤولية، فلا يطيق أن يخطئ في حق الذين تولى المسؤولية عنهم، ثم يحيا بينهم، فيسارع تلقائياً إلى محاسبة نفسه بطريقة قاسية، قبل أن يقف رغم أنفه في محل المحاسبة بين يدي القانون!
خرج شينزو ونفى تماماً أن تكون حكاية قطعة الأرض قد حصلت، وأظهر أنه متألم، وأنه لا علاقة له ولا لزوجته بالموضوع، وتعهد بتوضيح الحقيقة كاملة، لأن وظيفة رئيس الحكومة أن يوفر أسباب السعادة لمواطنيه، لا أن يُثير إزعاجهم، ولا أن يدفع بهم إلى دوائر القلق!
والتاريخ الياباني المعاصر ممتلئ بمواقف من النوع الذي بادر به رئيس الحكومة، رغم أن الاتهامات التي اعتذر عنها لا دليل عليها، ورغم أنها ليست أكثر من أقوال مطلقة، ورغم أن الأمر كان يكفيه أن يخرج المتحدث باسم الحكومة، وأن يتلو على الناس بياناً من سطرين، وأن تنتهي القصة عند هذا الحد!
ولكنها اليابان صاحبة الاقتصاد الثالث في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين.. اليابان التي إذا أرادوا فيها معاقبة شخص، حرموه من العمل فجلس كسيراً حزيناً في غرفة معزولة، تُشبه تلك التي ينفرد فيها المدخنون في المطارات بالسجائر.. اليابان التي فرضوا عليها بعد الحرب الثانية ألا يكون لها جيش، حتى لا تكون في فمها أسنان، فإذا بالمخالب والأنياب تنبت في مكان الأسنان!
اليابان هذه.. هي التي يسارع فيها رئيس الحكومة إلى الاعتذار علناً لكل مواطن، ليس لأنه كرئيس حكومة تسبب بأذى للمواطن، ولكن لأن هناك شُبهة.. مجرد شُبهة في أن يكون مثل هذا الأذى قد وقع!
أما الاعتذار الثاني على الشاطئ الآخر من المحيط، فكان من مارك زوكربيرغ، مؤسس موقع فيسبوك، أكبر مواقع التواصل الاجتماعي.. فالذين يتواصلون من خلاله مع بعضهم بعضاً، بلغ عددهم في الإحصاءات الأخيرة مليارين من البشر!
والعدد بالطبع مرشح للزيادة، إذا ما أدرك زوكربيرغ أن الخدمة التي يقدمها الموقع للموجودين عليه، لا بد أن تكون على مستوى محدد من التميز، ومن الأداء، ومن الاحترام، وإلا فإن العدد سوف يكون مرشحاً للنقصان إلى حد التبخر على المدى البعيد، وربما على مدى قريب!
ولهذا كان اعتذاره على الشاشات في الولايات المتحدة، مرة، وعلى الصفحات المنشورة في المملكة المتحدة، مرةً ثانية.. وإذا كان الأمر في حاجة إلى تكرار الاعتذار ذاته، وللسبب نفسه، مرةً ثالثة، فليس له أن يتباطأ أو يتأخر!
والقصة صارت أشهر من أن تُروى من جديد، فالكلام طوال أسابيع مضت لم يكن ينقطع عن بيانات شخصية، تسربت من الموقع إلى شركة كبيرة من شركات الاستشارات السياسة، وعن أن الذين تسربت بيانات عنهم من مستخدمي «فيسبوك»، يصل عددهم إلى خمسين مليوناً، وعن أن هذه البيانات جرى استخدامها في الانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية لصالح مرشح ضد مرشح آخر، وعن أن المرشح الذي جرى توظيفها ضده هو الذي خسر السباق الرئاسي!
والمعنى أن عملية من الخداع لخمسين مليون مستخدم قد تمت، وأن العملية كانت ذات أثر عملي في النتيجة النهائية لسباق رئاسة في أقوى دول العالم، وأن ذلك لا يجوز، لا على المستوى المهني في الموقع، ولا على المستوى الأخلاقي، وأن الاعتذار عما جرى هو أقل واجب!
وقد كان العتيد ستيف بانون، مستشار الرئيس الأميركي دونالد ترمب، لفترة، والمُقرب منه وقت ترشحه، نائباً لرئيس شركة الاستشارات السياسية المُتهمة.. وهو الأمر الذي يعزز احتمالات وقوع الخداع في حق الخمسين مليون مستخدم!
وقد خرج زوكربيرغ معتذراً يطلب السماح ومعه شيء من العفو!.. وفي اعتذاره قال الجملة الآتية: علينا أن نحمي معلومات مستخدمينا كاملةً، فهي مسؤولية. وإذا لم نتمكن من حماية معلومات كل مستخدم للموقع، فنحن لا نستحقها!
إن «فيسبوك» يقدم خدمة لمستخدميه، ومن حق كل واحد بينهم أن تكون الخدمة غير ناقصة، وألا تختلط بغش، ولا بخداع، فإذا كانت هناك شبهة في وقوع الغش، وفي ممارسة الخداع، فالاعتذار واجب، والإقرار بالخطأ أمر ليس عنه بديل!
إن شينزو سياسي رفيع الشأن في بلده، وزوكربيرغ صاحب أعمال من الطراز الأول في بلده أيضاً، وكلاهما يخاطب الجمهور ويتعامل معه، على اختلاف الدائرة والميدان، وإذا كانت القاعدة الاقتصادية تقول إن الزبون دائماً على حق، فالجمهور زبون في الحالتين.. وبالقياس في كل حالة منهما يظل الجمهور على حق أو صاحب حق. والاعتذار من السياسي الياباني، ومن صاحب موقع التواصل الأشهر، لا يعني فقط أن خطأً قد وقع، وإنما يعني تعهداً واضحاً بألا يتكرر الخطأ مرةً أخرى!
والاعتذار في كل حالاته يبقى تعبيراً عن ثقافة عامة، قبل أن يكون سلوكاً فردياً يتطوع به صاحبه، واعتذار رئيس حكومة اليابان عنوان لمجتمع هذه هي ثقافته، وكذلك اعتذار صاحب «فيسبوك»، وكلاهما أخذ ثقافته عن مجتمعه الذي عاش ويعيش فيه، ولم تهبط عليه من السماء، وكلاهما ما كان ليعتذر لو نشأ في مجتمع لا يعرف هذه الفضيلة ولا يمارسها، ولا تزال بيننا وبينها خطوتان، أن نعرفها، وأن نمارسها، لأنه لا ممارسة صحيحة بغير معرفة سابقة، وبالذات على مستوى السياسي المحترف الذي يُصوب اعتذاره إيقاع خطواته!