محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

محطات الموت

كونت فكرة منذ بعض الزمن مفادها أن الحياة هي مثل قطار نركبه جميعاً كل في محطة مختلفة، وننزل منه جميعاً كل في محطة مختلفة أيضاً. هذا قبل أن أقرأ ما كتبه الفيلسوف الألماني مارتن هايديغر (1889 - 1876) وهو: «إذا كنت أستقبل الموت في حياتي. أعترف به وأواجهه تماماً، سأستطيع تحرير نفسي من القلق منه ومن تفاهة الحياة. فقط حينها سأصبح أنا».
هذا ليس كلاماً لا يقبل المناقشة خصوصاً لمن لا يرى، مثلي، أن الحياة تافهة.
إذا استقبلنا الموت واعترفنا به، فإن ذلك لا يعني أننا سنواجهه بشجاعة. الاستقبال والاعتراف به ليس صعباً. ونحن المسلمين لدينا قناعاتنا التي تفيد بأن علينا قبول الحياة والموت والقضاء والقدر على حد سواء. لكن مواجهته أمر نسبي. يرتاح بعضنا لما تزوّد به لملاقاة ربه ويجد نفسه أكثر استعداداً ممن لم يتزوّد بشيء ذا قيمة.
ذات مرّة قال لي صديق خسر والدته التي كانت بالغة الورع والإيمان وتأثر كثيراً بسبب ذلك: «أريد أن أقابلها في الآخرة». بما أنه كان ملحداً (أو هكذا يدعي حسب الموضة الدارجة) فإن جوابي له: «آمن قبل فوات الأوان وربما التقيت بها في الآخرة».
صراحة لا أعرف بمن سنلتقي بالآخرة. نحب أن نلتقي بكل من نحب في هذه الحياة، لكن بما أن الجنة تعني عدالة تامّة وخلو النفس من أسباب الأذى والمشاعر السلبية، فمن يدري... لعل كل منا سيشعر بأنه الأب والأم والابن والشقيق للآخر.
ما أعرفه أن مسألة الحياة والموت أغرب مما يعتقد البعض. هذا لأن لا شيء، لا في الحياة ولا في الموت، سدى. قد يموت الطفل حال يخرج للحياة. وقد يعيش وينمو ويصل إلى تسعين سنة أو أكثر ماراً على كل محطات الموت الأخرى التي يتوقف قطار الحياة عندها لإنزال ركابه. كان يمكن أن يكون واحداً ممن ينزلون في أي عمر أو في أي لحظة شاءها الله له، لكنه لم يفعل وبقي حياً حتى بلوغه أرذل العمر.
هذه المحطات، لو شئنا قليلاً من الفلسفة، هي نتاج تلك الحلقات المتصلة بعضها ببعض التي تمتد عبر الزمان والأمكنة. المثال الذي طرحته قبل أسابيع حول ما قد يحدث لو نزلت من منزلك واستقللت سيارة ووصلت إلى موعدك في المكتب مما يغيب عن بالك وكيف أن كل هذا متصل بحلقات مختلفة تؤدي إلى عيش كل لحظة بحد ذاتها على النحو الناتج عن التركيبة الكبرى ما زال ماثلاً. أضف عليه أن لا شيء وحده في هذه الدنيا حتى لو حبست نفسك في منزلك المريح. فالبيت الذي أنت فيه بناه آخرون وُلدوا قبلك أو بعدك وامتهنوا التصميم وتجارة العقارات والبناء ولذلك أنت فيه. لولا ذلك لربما كنت في منزل آخر غير مريح أو بعيد. ثم لولا عملك وراتبك لما كنت في بيت أساساً، وهذا العمل والراتب متصل بآخرين والآخرون متصلون بآخرين سواهم وهكذا.
وإذا كانت السلامة هي ما تنشده ولذلك حبست نفسك في البيت، فإن ذلك ليس ضمانة من أي نوع. يعاودني خبر قرأته منذ سنوات بعيدة: امرأة مصرية لم ترغب في رحلة لمنتجع صحراوي لكن زوجها وأولادها أصروا فوافقت. في اليوم التالي عقصها عقرب خرج من تحت الحصيرة التي افترشتها فوق الرمال فماتت.