محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الصحافة الاستقصائية أملنا في وجه السطحية

ربما تكون شهادتي مجروحة كعضو مجلس إدارة «جائزة الصحافة العربية» في التعليق على حال الصحافة، لكن لا يختلف اثنان على أن الشاشات الصغيرة قد جذبت جمهوراً عريضاً من متابعي الصحف الورقية وحتى التلفزيون. غير أنني أرى أن الصحافة مثل غيرها كلما كان فيها عنصر جذب لفتت إليها أنظار الناس والمؤسسات وحتى الدول.
وأهم لواء يجب ألا تسقط رايته في ميدان التنافس الضاري حالياً هو «الصحافة الاستقصائية» التي كشفت ما لم تكشفه الشاشات، آخرها ما كتبه الصحافي الاستقصائي السلوفاكي عن الفساد الذي أسهم في تأجيج مظاهرات عارمة، ثم قتل لأسباب ذات صلة بعمله، كما قالت الشرطة. فرصد رئيس الحكومة مكافأة قيمتها مليون يورو لمن يدلي بمعلومات تسهم في الكشف عن المتورطين في هذه الجريمة. ومثلها قصة الناشط الأميركي رالف نادر في الستينات الذي نجح «عبر تحقيقات استقصائية» وكتب في إجبار شركات تصنيع سيارات على سحب منتجاتها، لوجود خلل فني أدى إلى حوادث عدة، بحسب موقع «جامعة الإمام سعود».
وهذا اللون الاستقصائي كشف مآسي إنسانية واقتصادية واجتماعية جمة، بل وأسقط رئيس أقوى دولة في العالم. وأذكر أنني وقفت، ذات يوم، أمام مدخل الدور الذي وقعت فيه فضيحة «ووتر غيت»، وهو المبنى الذي كشفت فيه «واشنطن بوست» بتقريرها الاستقصائي تنصت «الجمهوريين» على خصومهم «الديمقراطيين»، بعلم الرئيس نيكسون آنذاك. الأمر الذي اضطر الرئيس إلى تقديم استقالته لاحقاً. هذه القصة، التي تدرس في جامعات العالم حتى يومنا هذا، قدمت لنا درساً عملياً في معنى السلطة الرابعة الذي لا يدركه إلا من يعيش في مناخ رحب من حرية الرأي. وهذه الصحافة الاستقصائية في غاية الخطورة، لأنها مثل السير في حقل ألغام يحتاج إلى أقصى درجات الحيطة والحذر والدقة. وربما هذا ما يجعل بعض الصحافيين يتراجع عن خوض غمار تلك التجربة، لأن مؤسستهم لا توفر لهم غطاءً مالياً أو استشارة قانونية تطمئنهم بأنهم يسيرون في إطار القانون. كما أن هذا الطيف الصحافي يجب أن يصبّ في المصلحة العامة، وليس بغرض التشهير والتعريض بعباد الله، لأنه عمل مضنٍ يستغرق شهوراً عدة أو أسابيع أو سنوات، ثم قد لا يرقى لمرتبة النشر لعدم توافر المعلومات أو الأدلة الدامغة. وإحدى أهم التجارب العربية موقع «أريج» للتقارير الاستقصائية، وهي نواة تستحق الإشادة، والرعاية كما فعلت منظمة اليونيسكو وغيرها.
أطرح هذا الموضوع في وقت يتزامن مع انطلاقة منتدى الإعلام العربي، اليوم الثلاثاء، في دبي، (أوسكار الإعلام) بعنوان «تحولات إعلامية مؤثرة»، التي أرجو أن تعيد فيه المؤسسات المكتوبة والمرئية والمسموعة النظر في الإعلام الاستقصائي للفت أنظار العالم إلى العمل الاستقصائي من جديد. فالجمهور بفطرته يبحث عما يثير الاهتمام، ويجعله يتسمر بذهول أو إعجاب أمام ما سطره ذلك الفريق الإعلامي أو عرضه من عمل استقصائي يرتقي بالمجتمع، وينتشلنا من انتشار الأخبار الملفقة أو المعلبة. كما أن هذا الفن الصحافي الأصيل يمكن أن يقدم على كل المنصات المكتوبة والمرئية والمسموعة، علها تنتشلنا من تفشي السطحية والجري وراء سراب السبق بتقارير هزيلة.
والأهم من ذلك ضرورة توفر مناخ كبير من الحريات للإعلاميين، ليؤدوا رسالتهم المجتمعية. ورب قائل يقول استحالة ذلك في الجانب السياسي، فنرد بأن هناك مجالات لا تقل أهمية كالإنسانية والاقتصادية والاجتماعية، لا حصر لها. خذ مثلاً القائمة الصغيرة لأكثر خمسة أسباب تودي بحياة العرب. التي تختلف من بلد لآخر. فلو تفرغت كل مؤسسة بتناول تقرير ميداني محترف سنعيد الأنظار لرصانة الصحافة، ونبدد ولو شيئاً يسيراً من انتشار السطحية.