محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

العميل المسموم

في الروايات البوليسية نجد حالات التسمم تبقى غامضة ثم تنجلي قبل نهاية الرواية. كذلك ينجلي الشخص الذي قام بوضع السم في الطعام أو في الشراب ولماذا. رجل الأعمال الذي أراد إزاحة شريكه. الزوجة التي تريد أن ترث زوجها أو العكس. الرجل الذي يحاول كتم نفس شخص آخر لكي لا يشي بالسر.
وهناك المشهد الذي يضع شخص ما السم في كأس ويقدمها لغريمه. الغريم - قصداً أو من دون قصد - يأخذ الكأس النظيفة، لكن من شرب الكأس الملوّثة؟ ينظر من دس السم في كأسه وقد بدأ يشعر بأعراض التسمم. يصيح المخرج: CUT
في الحياة الواقعية لدينا قضية سيرغي سكريبال، الجاسوس الروسي المزدوج الذي وُجد وابنته يوليا مسمومين في الرابع من مارس (آذار) وتم نقلهما إلى المستشفى حيث ما يزالان تحت العلاج.
انصب اهتمام الإعلام على الأب وتم نسيان الابنة. الأول جاسوس والثانية مجرد ابنته. لكن تأثير السم كان متساوياً. هي غابت عن الوعي وفقدت القدرة على الحركة ولم يعد جسدها يمارس وظائفه اليومية المعتادة. هو تعرض للحالات ذاتها بالإضافة إلى القيء وكلاهما ما زال حياً لم يمت.
ليس هناك شرلوك هولمز ليكشف الفاعل سريعاً، لكن هناك العلم الذي يؤكد أن التسمم حدث بفعل عناصر كيماوية تعرف باسم Novichock كُشف النقاب عنها قبل سنوات قليلة وصدر تعميم بتحريمها. يبدو أن التعميم لم يصل إلى كل الأطراف أو أنه وصل وانضم إلى القرارات غير الصالحة للتطبيق.
يعمل «نوفيتشوك» على الدخول تحت البشرة. يعيش بين العضلات والأعصاب وبذلك يمنع كل منهما العمل التلقائي الدائم فيما بينهما. هذا يؤدي إلى عوارض مثل الهذي والانقباض العضلاتي والشلل. حسب العلماء. أحدهم، بيتر تشاي، خبير في مستشفي بريغهام في مدينة بوسطن، يشرح العوارض الأولى: «تدمع العينان بشدة وينزف أنفك وتمتلأ معدتك بالسوائل وتصيبك حالات إسهال طويلة الأمد. ويؤثر كل ذلك على سلامة القلب».
أهذا كل شيء؟
لا. حسب كتاب بات مصدر إلهاب كتاب الروايات البوليسية والجاسوسية عنوانه The Handbook of Toxicology of Chemical Warfare Agents فإن السم من القوّة بحيث يطيح بالشخص في ربع ساعة. ما يجعلني أتساءل إذا ما كان المفعول بالنسبة لسيرغي وابنته كان تحذيراً فقط أو أن الكمية لم تكن كافية.
ما حدث هو سبب آخر يجعلني أحب أن أعيش في الخيال وليس في الواقع. في الخيال داخل صفحات الكتب أو في طي الأفلام السينمائية، لا أحد يموت. كله لعب في لعب. لكن لا شيء غبياً في الوقت ذاته إذا ما كان الفيلم جيداً أو الرواية مكتوبة بإلمام.
تستطيع أن تصوّر ملحمة حربية كبيرة في السينما تتساقط فيها الضحايا أمام العين ليذهب بك الفيلم إما لتقدير البطولات أو للخروج برسالة معادية للحروب، لكن كل قتيل يسقط أمام عينيك سينهض بعد انتهاء يوم العمل وينفض غباره ويقبض أجره ليلتحق بفيلم آخر. قتلى الحياة هم الوحيدون الذين لا ينهضون.