حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

إنه رأس جبل الجليد

«كل اللبنانيين يعتذرون من زياد عيتاني والبراءة ليست كافية»!!
هذا الكلام الصاعق هو لوزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق، الذي أعلن ليل الثاني من مارس (آذار) براءة زياد عيتاني، وهو المسرحي المحبوب والمثقف الذي تم رميه في السجن منذ 23 نوفمبر (تشرين الثاني) بتهمة العمالة لإسرائيل. نعم كانت التهمة العمالة للعدو، والمهام، مراقبة سياسيين وإعلاميين لقتلهم، وأخذ لبنان لإنجاز تطبيع ثقافي مع الكيان الصهيوني. مهام يقتضي للإحاطة بها تشغيل نصف جهاز الـ«سي آي إيه» فكلف بها الفنان زياد عيتاني!!
طبعاً تغريدة الوزير على «تويتر» قلبت الوضع حيال زياد من متهم بالعمالة إلى بريء. الاتهام الفظيع تحول إلى ضده، والشظايا أصابت جهازاً أمنياً. كثيرون أصيبوا بالذهول في قضية عرفت الكثير من التواطؤ وغضِّ النظر المقصود، من سياسيين ومسؤولين وأمنيين وناشطين وإعلاميين وإعلام، إلى جهات متعددة تناوبت في إجراء غسيل دماغ للمتلقي، مستندة إلى تسريبات قيل إنها محاضر التحقيق الأولى مع الفنان عيتاني واعترافاته بالعمالة للعدو، وكل اللبنانيين تحدثوا عن «كوليت» العميلة المزعومة التي جندت مسرحياً مبدعاً استطاع رسم البسمة على وجوه المتعبين. ورغم أن المرتكز القضائي لضمان العدالة، المتهم بريء حتى تثبت الإدانة، كانت محاكمات على الهواء، بكل ما رافقها من صفاقة هواة (...)، احتلوا الشاشات والأثير، فكان أبشع تشهير وانتهاك للكرامة، وتعرض عيتاني لسحلٍ إعلامي طال أسرته ومحيطه، حتى وحيدته ابنة السنوات العشر سجنت نفسها وقاطعت المدرسة لأنه قيل لها هناك: ابنة عميل!!
ولأنه كلام الوزير المسؤول عن الأمن؛ المفترض أمن الناس والبلد، استوقف الكثيرين، فهو إعلان براءة قبل أن يقول القضاء كلمته، والإعلان استند كما يبدو إلى نتائج كل التحقيقات الموجودة أمام الوزير الذي يعرف أكثر من سواه تفاصيلها وحيثياتها. وبعيداً عن الردود الشبابية المدوية: ليعتذر من اتهم واستقيلوا. شكل إعلان المشنوق بداية مُحكَمة لمسرحية موجعة بطلها زياد عيتاني، وهو سليل أسرة فنية (حفيد محمد شامل فنان الشعب اللبناني)؛ مسرحية كشفت عن كمٍ من الهريان الذي أصاب السلطات، فالفضيحة أصابت النظام السياسي إصابة عميقة، وكل أطرافه يتحملون المسؤولية عن هذا الانهيار في منظومة القيم الأساسية للدولة، ليجد المواطن نفسه أمام خلطة بشعة يتداخل فيها كل ما هو شخصي بالأمني والقضائي والإعلامي إلى التوقيت للاستغلال الانتخابي. طبعاً العياتنة هم أكبر الأسر في بيروت، والملف المركب انفضح منذ منتصف ديسمبر (كانون الأول)، عندما طلب قاضي التحقيق التدقيق بالثغرات الموجودة في التحقيق الأولي، وما شاع أن «الاعترافات» انتزعت بالقوة، وطلب تحويل التحقيق من «أمن الدولة» إلى «شعبة المعلومات»، فجرى إهمال ذلك عمداً وبقي زياد عيتاني في العتمة خلف القضبان... ليتم نقل الملف في آخر فبراير (شباط) مع بدء العد العكسي للانتخابات النيابية!!
نفتح مزدوجين للقول: إن ارتكابات بعض الأجهزة الأمنية في لبنان قديمة، والبلد عرف في تاريخه الكثير من الحكايات، كان هناك «المكتب الثاني» في الحقبة الشهابية وما تلاها، وقيل الكثير عن بعض أركانه، عن حكايا «السلطان سليم» ورفاقه... وعن مسرحية أوائل السبعينات إلغاء هذا الجهاز ووقف التنصت على الناس، فتم استبدال من هم أكثر مطواعية بالمعنيين... ولو تجاوزنا التعسف في فترة الحرب الأهلية، فإن تجاوزات هذه الأجهزة تفاقمت في مرحلة الاحتلال السوري المباشر، والكل يتندر بما قاله الرئيس رفيق الحريري وهو يصطحب في سيارته الكاتب السياسي اللمّاح سمير قصير في ذروة ملاحقة الأخير، لكسر قلمه، رداً على قول قصير: هذه السيارة إلى جانبنا مكلفة بمطاردتي، فرد الحريري: إنهم يطاردونني أنا.
رغم انكشاف الكثير، لم تتخذ الحكومات المتعاقبة بعد «انتفاضة الاستقلال» في عام 2005 الحد الأدنى من الإجراءات المطلوبة، مع أن تلك الانتفاضة هزّت نظامين أمنيين في بيروت ودمشق، فإن كل وزراء الداخلية والعدل ما بعد ذلك التاريخ لم يحركوا ساكناً، حتى وصل لبنان إلى زمنٍ يتم فيه بناء الأجهزة الأمنية وفق أجندات خاصة لخدمة مصالح ورغبات الحكام زعماء الطوائف. زمن لم يتوان فيه جهاز أمني، وليد نظام المحاصصة الطائفية، في زمن تغليب الولاء للدويلة على الدولة، عن تركيب ملف خطير جداً، نتيجة حالة غضب انتابت المسؤولة السابقة عن جهاز مكافحة جرائم المعلوماتية (المقدم س.ح.ح) التي ضبطها الفنان عيتاني تؤيد تغريدة صفيقة ضد السعودية وحقوق السعوديات... فكان الملف الذي حمل جانباً من لا مهنية أجهزة يفترض أن همها حماية أمن الناس والبلد. وإذا استثنينا رغبة البعض من أهل المحاصصة الطائفية تلميع أسماء، ولو بعد فبركة نجاحات وهمية، فالنتيجة كانت أخطر توريط، لأن المُعلن يفيد بأن الملف المركب: اكتشاف خلية للعدو وإحباطها، تم وضعه أمام المرجع الأول الذي بادر لتوجيه التهنئة بالسلامة لمن قيل إنهم من المستهدفين، ومنهم وزير الداخلية ووزير دفاع سابق، وشهد البلد يومها تدفق المريدين للتهنئة بالسلامة!!
كم أنت خطير أيها المبدع زياد عيتاني؛ لقد كركبت البلد، وأعادت قضيتك التي كشفت حتى الآن رأس جبل الجليد ليس إلاّ، طرح السؤال الأبرز، وهو أنه أمام ملف مركب مفضوح مليء بالثغرات من هو الحَكَم؟ من هو المسؤول عن السماح بتسريب تحقيق أولي، ولماذا كان التغاضي عما بثته شاشات عديدة عما زعمت أنه «أدلة» موثقة بالصوت والصورة؟
دون أي مبالغة ملف زياد عيتاني، الذي فجر صراعاً بين الأجهزة الرسمية ولم يُطو بعد، تحول إلى ملف كل اللبنانيين، وإلى قضية رأي عام، فخلف القضبان أكثر من زياد ولا أحد يحميهم، والمواطن يرفض اللفلفة ويريد كشف الحقيقة، ولمصلحة من تتشظى الدولة؟ والمثل الفاقع الآن كيف يُقبل من جهاز أمني الذهاب لإجراء فحص دم لكل اللبنانيين عندما يتهم في بيان سياسي من سماهم «أطرافاً وجهات مشكوكاً في انتمائها الوطني» تُخرِب عليه!! إنه ملف اللبنانيين الذين يريدون طي صفحة المزرعة لاستعادة الدولة، ومن البداية ضرورة استعادة استقلالية القضاء وهو سلطة مستقلة، شكل إخضاعها للسلطة السياسية، كما الأجهزة الأمنية، غياب أي مرجعية مستقلة بالإمكان العودة إليها والوثوق بها، وألف باء الطريق وفق الكثير من الناشطين الذين لم يتخلوا يوماً عن إبداء القناعة ببراءة عيتاني مما نُسب إليه، الذهاب إلى القضاء في لبنان وفي الخارج لو اقتضت الظروف، لكشف كل الذين ساهموا في الفبركة والتغطية والتسريب، واتخاذ أقصى الإجراءات القانونية ضدهم، ليس لاستعادة حقوق زياد عيتاني وهذه أولوية، بل لإحداث هزّة حقيقية لحماية البلد وصورة الدولة المرتجاة، وبدء تهشيم جبل الجليد الذي أطبق على أنفاس الناس، من أجل حماية المواطنين، وخصوصاً لحماية كل من يقول لا لنظام المحاصصة الطائفي الذي يحمي الفساد ويستتبع البلد.