محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

أيام الحب

كان شقيق جدي، عبد الرحمن، يحب تربية الحمام. وكان، بعد الحرب العالمية الأولى حينما كان لا يزال شاباً كما تناهى إلي جيلاً بعد جيل، قد بدأ بـ«كم فرخ» حمّـام. و«هالكم فرخ» ازداد عدداً حتى أصبح خمسين حمامة ثم مائة. وعندما زرته وأنا صغير في مطلع الستينات، كان لديه مائة زوج يعني مائتي حمامة.
لم يكن يأكل منها شيئاً بل يربيها ويطيّـرها في سماء المنطقة التي وُلد وعاش فيها. يرقبها. يصفّـر لها ويعرف كيف يستردها من دون أن تفلت منه واحدة. في تلك الزيارة جلست على أرض سطح المنزل الصغير حيث أقفاص حمامه الكبيرة. لم ينجب وزوجته وكانت هذه الحمامات بمثابة أولاده. يحن لها ويرعاها ويفحصها ويؤمّن لها الطعام والماء ونظافة المكان.
«الله يرحمه كان يبكي إذا ما ماتت حمامة. يجلس على السطح ويبكي». قالت لي جدتي ذات مرّة. وأخبرتني أيضاً أن جيرانه (من طائفة أخرى) «عجقوها» غناء وطرباً ذات مرّة ما قض مضجع حمامه، فطلب منهم، وكان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، التوقف عن هذا الصخب. فلم يستجيبوا. كان نحيفا وضعيف البنية ولا يصلح للتشاجر مع شخص واحد فما البال بأشخاص عديدين؟
لكن زوجته كانت أخت الرجال واتجهت إلى جدي، في بيت قريب آخر وأيقظته وطلبت منه مساعدتها في هذا الأمر. هذا أيقظ بدوره أقرب الجيران إليه واتجه الجميع إلى الحفل وقوّضوه على أصحابه. الزوجة كانت معهم تضرب كما يضربون.
ذات مرة جاء شقيق جدي رجل من حمص سمع عن حمامه وطلب منه أن يبيعه ذكرا وأنثى معينين (وليس كل الحمام واحدا، إذا سمحت) ليضمهما إلى فوجه. لكن رفض. رفع الحمصي السعر ورفع شقيق جدي الرفض، فالمسألة عنده أنه يحب حمامه كله ولا يستطيع أن يتصوّر نفسه وقد تخلّى عن إحداها. تركه الرجل وغاب يومين أو ثلاثة ثم عاد مع أقرب أصدقاء العائلة، وهذا توسط في مباحثات تشبه مباحثات ترسيم الحدود لدول البلقان مثلاً. وفي النهاية وافق بعدما قال للحمصي: «أول أسبوع لا تطيّـر أيا منهما. ثم طيّـر الذكر لثلاثة أو أربعة أيام منفرداً ليعود إلى أنثاه. وبعد ذلك طيّـر الأنثى منفردة لتعود إلى ذكرها. بعد ذلك تستطيع أن تطيّـرهما معاً كيفما شئت».
لكن الحمصي لم ينتظر. بعد يومين أطلق الذكر وأبقى الأنثى ثم أطلق الأنثى وأبقى الذكر. ثم استهان بالموضوع فأطلقهما معاً ضمن «الكشّـة» قبل نهاية الأسبوع. فإذا بهما يتركان السرب ويمضيان كالسهم معاً عائدين لا إلى بيروت فقط بل إلى سطح شقيق جدي ذاته، وهو كان احتاط للأمر تحسباً فأخفى الماء حتى لا يشربا وهما على عطش فيموتا للحال. حطا في المساء وأخذا ينقران الخشب معلنين عن عودتهما. صعد شقيق جدي السلم من البيت إلى السطح وبكى من الفرح حين شاهدهما.
ورثت عنه حب الحمام، لكني للأسف لا أربيه. أما هو فكان «كشاش» حمام محترفا وفخورا. كان يحب حمامه وأنا واثق من أنه كان يحبه أيضاً.