سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

طوكيو تحترق: تعبوا من الإحراق

عند الثالثة والثلث فجراً، توقف القصف. وحين طلع الفجر على طوكيو، تبيّن أن ربع المدينة قد دمّر. قتل مائة ألف ساكن، وأربعون ألفاً أصيبوا بحروق جسيمة لكنهم أحياء. وغدا مليون مواطن ياباني من دون منازل. أما قاذفات الـ«بي - 29» الثلاثمائة وأربع وعشرون فكانت قد غادرت إلى قواعدها، عدا اثنتي عشرة طائرة فقط سقطت لأعطال ميكانيكية.
كان الجنرال كيرتس لوماي قد وضع هدفاً لهذه المهمة وفحواه أن طوكيو «يجب أن تحترق وتُمحى من الخريطة لتقصير أجل الحرب».
جال الإمبراطور هيرو هيتو في المناطق المنكوبة من طوكيو في الثامن عشر من مارس (آذار). كانت قافلة السيارات المرافقة وسيارته الرولز رويس الكستنائية اللون تحمل رسميي العرش القرمزي، وتشير رمزياً إلى «زيارة مقدسة». مرّ الإمبراطور بالمدنيين المنهكين التائهين وسط الدمار يبحثون عن أي شيء من حيواتهم التي دمّرت للتو. وبدل أن ينتاب هؤلاء اليأس، فقد أخذتهم مشاعر الاعتزاز عند رؤية الموكب. لم يتوقف الإمبراطور ليشارك مواطنيه مأساتهم، ولم تُظهر تعابير وجهه أي أثر للأسف أو الندم. وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي جلبته الحرب على طوكيو ومواطنيها حتى اللحظة، لم تتردّد النخب اليابانية بعد يومين في إرسال إشارة إلى هيرو هيتو تحضه على عدم الاستسلام. كانوا يعتقدون أن اليابانيين سوف يعتادون على القصف. ويغدون في الآتي من الأيام أقرب إلى بعضهم بعضاً.
فقد المدنيون اليابانيون في الأسابيع التي تلت طعم النوم، وباتوا ينتظرون موجات جديدة من القصف، ما جعلهم منهكين وقلقين. وفي المصانع جرت ملاحظة تصاعد التغيّب عن العمل والتباطؤ في إنتاج البلد الحربي.
ومع ذلك، لن يستسلم اليابانيون. لم يحدث ذلك حتى حين كرر الجنرال لوماي عملية قصف طوكيو بالقنابل المحرقة في ناغاوا ويوكوهاما وأوسكا وكوب وكاواساكي.
وبدلاً من ذلك، أقفلت المدارس في اليابان. كانت تلك إشارة أن البلاد سوف تقاتل حتى أسوأ النهايات، وجرى سوق كل الأطفال لإنتاج الطعام أو الذخائر، بل جرى تدريب بعضهم على كيفية استخدام المدافع المضادة للطائرات.
غير أن ذلك كله لم يكن ضرورياً، فبعد أسبوعين من «موسم الحرائق»، توقف قصف اليابان بالقنابل الحارقة. وكان لذلك سببان: الأول، أن طياري لوماي باتوا مرهقين، والثاني، أنه بعد إسقاط خمسة ملايين جهاز «إم - 69» فوق اليابان، فقد فرغت مستودعات الجناح الحادي والعشرين من القنابل المحرقة.