فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

الحقبة السورية

لعل ما حدث في مجلس الأمن في الأيام القليلة الماضية من نقاشات وتصويت حول حرب نظام الأسد وحلفائه الروس والإيرانيين على غوطة دمشق، يشكل ملمحاً آخر من ملامح الحقبة السورية، التي باتت تظلل السياسة الدولية في عالمنا المعاصر، وتفرض عليه تبعاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ليصير للعالم هوية وسلوك مختلف عما كان عليه قبل الحقبة السورية.
ولا تستمد الحقبة السورية أهميتها فقط من بلد لا تزيد مساحته على مائة وخمسة وثمانين ألف كيلومتر مربع، وسكان يبلغ عددهم نحو 22 مليون نسمة. كما لا تستمد أهميتها مما شهدته سوريا من أحداث عنف وتدمير قام بها نظام الأسد وحلفاؤه، ولا سيما الروس والإيرانيين، رغم أهمية تلك الأحداث، التي يتفق كثيرون على أنها الأشد فجاعة مما شهده العالم لعشرات السنين من تاريخه الحديث والمعاصر، بل تستمد أهميتها خاصة من السياسات الدولية والإقليمية التي صاحبتها في السنوات السبع الماضية، التي بدأت بخروج السوريين مطالبين بالحرية والكرامة وتغيير حياتهم ومستقبل بلادهم وأولادهم، فردّ عليهم النظام بالقتل والاعتقال وتدمير قدراتهم المادية الفردية والاجتماعية، قبل أن ينضم لمسيرته الدموية المستمرة الإيرانيون والروس وشركاء آخرون في الخفاء.
إن الأبرز في ملامح الحقبة السورية، مجموعة نقاط؛ أولها وأهمها توافق ضمني على استمرار المذبحة السورية رغم الانقسام المعلَن في مستوى القمة الدولية حولها بظهور أطراف منخرطة في أتونها، كما هو حال روسيا وإيران مقابل إعلان آخرين في مقدمتهم الولايات المتحدة وأوروبا العداء لإجرام الحلف القاتل دون الذهاب إلى إجراءات عملية في مواجهته، إنما مسايرته وتوكيله في إتمام جريمته وصولاً إلى التفكير بقبول النظام وإعادة تأهيله تارة تحت مبرر الحرب على الإرهاب، وأخرى بحجة عدم وجود بدائل.
والنقطة الثانية ذهاب الفرقاء الرئيسيين لانخراط سياسي وعسكري وأمني في العمق السوري، ليصير لكل منهم مساحة في الجغرافيا السياسية والعسكرية واقتصاد الحرب وما بعدها بما يعنيه ذلك من وجود استراتيجي متعدد الأبعاد في سوريا، جعلهم يعلنون أن وجودهم؛ سواء العلني أو المستور، مستمر حتى لو تم التوصل إلى حل للقضية السورية، ويتشارك في هذا السلوك بصورة رئيسية روسيا وإيران إلى جانب الولايات المتحدة وتركيا.
والنقطة الثالثة توافق كل الأطراف على تهميش دور المؤسسات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، وتعطيل قوانينها وأعرافها، والتلاعب على قراراتها والامتناع عن الذهاب، إلى ما ترسخ في السياسة الدولية من مخارج لانسدادات السياسة الدولية في معالجة القضايا والأزمات الخطرة، كما في مثال العمل خارج مجلس الأمن الدولي، الذي قامت به الولايات المتحدة في تشكيل تحالف دولي عشية الحرب على العراق في عام 2003.
النقطة الرابعة، تشارك الأطراف في النظر للقضية السورية من زاوية الحرب على الإرهاب، واستغلالها لتبرير السياسات والمواقف وتغطية الجرائم المرتَكَبة بما فيها التهجير والحصار وقتل المدنيين وفيهم أطفال ونساء، واستخدام الأسلحة الكيماوية وأسلحة الدمار الشامل المحرمة دولياً، وتناسي أن الأساس في القضية السورية هو سعي سلمي من أجل الحرية والتغيير الديمقراطي، قبل أن تتدخل تلك الأطراف لتدعم إرهاب نظام الأسد، وتُسهِم في خلق وتكريس جماعات متطرفة، وتقوم بحمايتها، وتحويلها إلى أدوات سياسية وميدانية.
النقطة الخامسة، تهميش مشترك لدور مختلف الأطراف السورية السياسية والعسكرية، وهو سلوك يجمع النظام والمعارضة في سلة واحدة، كما يجمع السياسيين والجماعات المسلحة بمختلف بناها الآيديولوجية والسياسية، وتحويلها إلى أدوات مهمتها تنفيذ ما يرغب الآخرون في تنفيذه من أجندات، الأمر الذي يكرس انقسامات حادة قومية ودينية ومناطقية، ويؤسس لحروب يمكن أن تستمر طويلاً.
لقد شكّل انطلاق ثورة السوريين على نظامهم في ربيع عام 2011، مقدمةً للحقبة السورية، لكن التكريس الحقيقي لهذه الحقبة جاء في بيان جنيف لعام 2012 للحل السوري بما احتواه من توافقات وتناقضات، كرّستها الأطراف الإقليمية والدولية المتدخّلة، وحوّلتها إلى إطار لتفاهماتها على نحو ما صارت إليه حالياً، المكرَّسة في صيغة قرار مجلس الأمن الدولي 2401 حول الهدنة المحدودة في سوريا، من خلال ما أحاط بصدوره من مجريات، وما احتواه من حيثيات ودلالات، من بينها عدم إلزامية ما هو مطلوب من الأطراف، بما يبقي وقف إطلاق النار عائماً وغير ملزم، إضافة إلى وَصْفه ما يجري بـ«الأعمال العدائية»، وليس بوصفه حرباً يشنها النظام وحلفاؤه على السوريين، خصوصاً في الغوطة المحاصَرَة، إلى جانب مساواته بين المعتدي والمعتدى عليه، والنص على عدم شموليته باستثنائه العمليات العسكرية ضد الإرهابيين الذين خصهم بوصف «(داعش) و(النصرة) و(القاعدة) وجميع الأفراد والكيانات المرتبطة بهم»، رغم أن الجميع يعرف أن حلف النظام يرى في كل معارض، حتى السلمي منهم، «إرهابيّاً» وحليفاً للإرهابيين، وبالتالي فإن الحرب عليهم في الغوطة وإدلب مستمرة، وهذا ما يفسر بداية الهجوم البري للنظام وحلفائه على الغوطة بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي مباشرة، ومثل ذلك التصريحات الإيرانية بأن الحرب في الغوطة مستمرة، رغم صدور قرار مجلس الأمن الدولي.
إن التفاصيل السورية لا تتجاوز فكرة الدلالة على محتويات الحقبة السورية باعتبارها نهجاً جديداً في السياسة الدولية، وشكل تعاملها مع الأزمات والانفجارات وسط توافق على استمرارها دون حل، وتحقيق المصالح المشتركة لكل الأطراف باستثناء أصحابها المباشرين.