محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الوظيفة ليست عبودية جديدة!

كم تؤلمني مقولة الوظيفة عبودية القرن العشرين التي قيل إن الأديب عباس العقاد قد أطلقها. المحزن أنها بدأت تستخدم في الآونة الأخيرة بتهكم وإساءة بالغين بحق ملايين من القوى البشرية المتفانية في عملها.
من يرددون هذه الكلمة ينسون أن العقاد نفسه كان في مقتبل عمره حينما كتبها ولم يرَ ما نشاهده اليوم من ازدهار الدول واقتصاداتها. ولم يلمس الخدمة العظيمة التي تقدمها الوظائف المعتبرة للشعوب حتى أصبحت الوظيفة تصقل مهارات الفرد، وإدارته لوقته، ومهاراته الإدارية والقيادية، وتفويضه، وتحمله لمسؤوليات جسام، وسرعة الإنجاز، فضلاً عن العمل في فريق عمل يكره نصف أعضائه، لكنه ينجز معهم المطلوب في نهاية المطاف.
والوظائف لم تعد دكاناً أو مزرعة، بل صارت تدرب الفرد وتبتعثه في دورات تخصصية، بعضها في قارات بعيدة لينهل من علم متخصص في مجاله. وصارت وظائف أخرى تجلب النجوم في تدريب داخلي (in - house trainining). فالتدريب العالمي أنفق فيه عام 2016 وحده نحو 360 مليار دولار، وهو مبلغ هائل.
ولولا الوظيفة لما وجدنا طائرة ولا سيارة ولا مدرسة ولا مستشفى ولا هاتفاً ذكياً، ولا حتى منزلاً آمناً نستظل به من صنع المهندسين. ولما كانت هناك أصلاً بورصة أوراق مالية ننمي بها مدخراتنا. ولذا نجد حتى التجار أنفسهم يرسلون أبناءهم في بداية حياتهم الوظيفية للعمل في مؤسسات عريقة ليتعلموا منها الانضباط، وروح العمل الجماعي، وربما ليشعروا بنفسية الموظف الصغير حينما يتأثر سلباً بقرارات المدير المزاجية، وليسمع ويرى بأم عينه ماذا يقول الناس عن غريبي الأطوار أو القياديين غير المؤهلين، الذين قد يكون هو أحدهم فيبدد ثروة عائلته. وقد قال لي أحدهم بصراحة: أنا هنا لأتعلم بأموال آخرين، بعدها سأنتقل إلى شركة العائلة!
وللوظيفة فضل على سائر المجتمعات، فمن رحمها خرجت معايير الجودة التي تفاخر بها الشركات، ومنها بزغ نجم معايير تقييم الأداء KPI التي صارت حكوماتنا تولي لها اعتباراً، منها أهم منصة بالعالم أطلقتها السعودية في مؤتمر دافوس تقارن بين مؤشرات الأداء العالمية، فكيف سنقارن من دون وجود وظائف. وبالوظيفة استطعنا أن نقول إن هذه الأمة أكثر إنتاجية من تلك، وهذه تفوقت على تلك بكذا وكذا.
ومن المختصين بالتخطيط المالي، من يرى أن حسن اختيار الوظيفة يمهد الطريق نحو «الحرية المالية». وصارت الوظيفة الجيدة جسراً للعبور إلى تجارة حرة، وفرصة لتعلم أمور مالية عميقة لا يتعلمها الفرد في مؤسسات صغيرة.
ولولا الوظائف لما لمسنا عن قرب جلد زملاء العمل الذين يخجلوننا بتفانيهم في العمل وإخلاصهم وحبهم. وبدلاً من أن نلعن الوظائف، لماذا لا نطالب المسؤولين بتوسيع دعمهم لقطاعات مختلفة تسع كل التخصصات، فلا نحشر مثلاً الفني المبدع في دراسات عليا ونوفر له حداً أدنى للأجور يوفر له عيشاً رغيداً. ولماذا لا نحسن نحن اختيار الوظيفة بدلاً من أن نهدر جل حياتنا في وظيفة لا نحبها؟