خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

أنا وصدام حسين... ويلاه من ترجمة صدام

الدخول أسهل بكثير من الخروج. هذا ما شعرت به دوماً في كل زيارة للعراق في عهد صدام حسين. دخلت مريئاً ولكن هات من يخرجني أماناً. تقدمت لي السيدة إقبال وقالت: الجماعة يريدونك أن تبقى لتترجم خطب الرئيس. كانت كلماتها أشبه بالصاعقة أو أمر بسجن مؤبد. ولكنها كانت عاصفة ومرت. أسرعت لأول طائرة ونشرت أجنحتي وحلقت إلى لندن. ولكن بضعة أشهر مرت واتصل بي ناجي صبري الحديثي، المستشار الصحافي في لندن. قال: الجماعة في بغداد يريدونك أن تترجم خطب السيد الرئيس. قلت له: عندكم هناك مترجمون كثيرون. قال: لقد جربوهم ولم تنجح التجربة. حتى ترجمة جبرا إبراهيم جبرا لم تنفع. القرار هو أن تقوم أنت بالمهمة. اذهب لأي مكان يعجبك في العالم على نفقتنا وتفرغ للموضوع. خذ ما يلزمك من وقت.
ما من مكان في العالم عندي يعلو على لندن. أنجزت العمل فيها وسلمت له النتيجة. يعتبر ناجي صبري أكثر العارفين بلغة صدام. التقاني بعد أيام. لا خالد لا. هذي مو خطب صدام حسين. يجب أن تتقيد بكل حرف يقوله.
ولكن هذا مستحيل. فكلامه شيش بيش، كما نقول في العراق. لا بد من تحريفه ليفهمه الأجانب. «لا خالد... هذا غير جائز. كلام صدام لا يحرف». جلست معه وأرجعنا ترجمتي إلى أصلها العربي، كما تفوه به السيد الرئيس. لا ناقص ولا زائد. سلمناها للمحرر الإنجليزي، بيتر مانسفيلد. ألقى عليها نظرة دقيقة ورفع رأسه وقال: هذه غير إنجليزية. لا أحد هنا يستطيع أن يفهم منها كلمة واحدة. ولا يمكن أن ينشرها أي أحد. جلسنا ثلاثتنا وأعدنا النظر في محاولة بائسة لفرض المنطق والعقل على كلام صدام، أو بالأحرى هذيانه.
سلمنا النص للناشر، شركة «لونغمان». اتصلوا بنا بعد بضعة أيام. قالوا: مؤسستنا لا تنشر مثل هذا الكلام. رئيس التحرير يقول هذا كلام غير ممكن. لسوء الحظ كان المحرر رجلاً متعصباً للغة الإنجليزية الفصيحة ومتطلبات المنطق الأصيل. ورأى هذا الكلام الذي سطرناه، أنا وبيتر مانسفيلد بتوجيهات المستشار الصحافي مجرد لغو لا معنى له ولا يقبله العقل.
شرحنا لهم المشكلة وتقرر أن نجلس سوية ثلاثتنا ورابعنا رئيس تحرير شركة لونغمان، ورحنا ندقق في كل كلمة وحرف. عمل مرهق ويا ويله من عمل. وتعجب رئيس التحرير هذا أن يكون هناك إنسان على وجه الكرة الأرضية ويقول مثل هذا الكلام. ولكن الإنجليز قوم يعتزون بكلمتهم «كومبرامايس» (الحل الوسط) وبفضل الكومبرامايس استطعنا أن نخرج بالنص المنشور. وقبضت أنا أجرتي وكذا فعل بيتر مانسفيلد ورئيس تحرير دار النشر. وكفى الله المؤمنين شر القتال. ولا أدري كم تعلم المسؤولون العراقيون من كل تلك الجلسات التي عقدناها في لندن على نصوص صدام حسين من سنن المنطق والعقلانية، ونزق التفكير ومسخ الكلام.