سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

نسويات طرز 2018

هجوم غير مسبوق على أيقونة السينما الفرنسية كاترين دونوف لمجرد أنها قالت غير ما تفكر فيه ملايين النساء في العالم، وكأنها ارتكبت جريمة لا تغتفر. الجميع يتحدث عما بات يسمى «قضية دونوف» من الأميركتين إلى مصر والأردن عبوراً بأوروبا. وكل ما فعلته الممثلة السبعينية التي لها، بحكم السن، حكمتها وتجربتها أنها شاركت 99 امرأة أخرى في إصدار بيان نشر في صحيفة «لوموند» الفرنسية منذ أيام، يقول: إن «الاغتصاب جريمة. لكن محاولة الإغواء ولو بشكل مستمر، لا تشكل جريمة بحد ذاتها، وجب ألا يتعرض بسببها الرجل لهجوم شوفيني متعصب». ويذكّر البيان أن رجالاً فقدوا أعمالهم أو خسروا سمعتهم، بسبب محاولات صغيرة، لمغازلة زميلاتهن. البيان طويل ويستحق القراءة والتمعن؛ لأنه يحذر من المبالغات النسوية، التي وصلت إلى حد التدخل في تفاصيل الأفلام التي تعرض، والروايات التي تقرأ، واللوحات التي تختارها المتاحف، أو الإعلانات التي تبث في التلفزيون، في محاولة لفرض سلطة جديدة لا تختلف عن ديكتاتورية المتطرفين، لأي فئة انتموا؛ ومن خالفوهن الرأي أو تجرأن على المعارضة اعتبرن «خائنات» و«متواطئات».
مجموعة نسوية أخرى أصدرت بياناً مضاداً للذي وقعته دونوف وشريكاتها، ولا تزال الاتهامات المتبادلة على أشدها، تشارك فيها وزيرات وصحافيات وكاتبات. وما أطلق الشرارة الأولى بطبيعة الحال، هي فضيحة منتج هوليوود هارفي ونستين الذي استخدم نفوذه وحاجة حسناوات السينما إلى خدماته ليتحرش بعشرات النساء الشهيرات، فلم يترك أنجلينا جولي ولا غوينيث بالترو ولا جيسيكا بارث. وجاءت المناسبة رائعة لمن يريدون الانتقام منه، وكذلك للنسويات المتربصات للثأر لأنفسهن. وأطلقت فنانات هوليووديات هاشتاغ «مي_تو» بالإنجليزية لينتشر كالنار الشرهة، ومثله بالعربية «أنا_أيضاً» أو «أنا_كمان»، وترجم إلى كل اللغات، كما هو معلوم وشاركت فيه ملايين النساء حول العالم، وحولن صفحات التواصل الاجتماعي إلى ديوان لتسجيل قصص التحرش بهن.
لا يمكن لعاقل أن يقرأ فظائع ما كتب دون أن يشعر بالهول أمام ما تتعرض له النساء ويعشنه بتكتم. وهو ما جعل مجلة «تايم» تختار هاشتاغ «مي_تو» شخصية العام التي حملت اسم «كاسرات الصمت». ليست المرة الأولى لا عربياً ولا غربياً، التي تستخدم فيها وسائل التواصل، وهاشتاغات موحدة، لفضح قصص التحرش وحث الرجال على احترام النساء اللواتي يشاركنهم الشارع والمترو والمقهى ومكان العمل، لكن الجمعيات النسوية، يبدو أنها عازمة على استغلال شهرة ممثلات هوليوود اللواتي أطلقن الحملة هذه المرة، لتوظيفها بما هو أبعد، معتبرات أن عام 2018 يجب أن يكون لحصاد ما زرعنه في السنة التي سبقتها.
لا ريب في أن النساء لا يزلن يعانين دونية في العمل والرواتب حتى في أعرق المؤسسات الغربية كما أعلنت محررة «بي بي سي» في الصين كاري غريسي، قبل أيام، وقدمت استقالتها من منصبها، مبررة قرارها بعدم التوازن في الرواتب وأنها تتقاضى نصف ما يدفع لزميل لها في المنصب نفسه. حتى في «غوغل» تتهم الشركة بالانحياز لتوظيف الذكور دون الإناث وإساءة المعاملة وشح الترقيات، كما أن المرأة تقتل وتعنّف في بلدان كثيرة ولا تجد من تشريعات تحميها، إلا أن بعض النسويات ذهبن إلى مبالغات، ستفقد بمرور الوقت الرجل إحساسه باختلافه، أو حتى رجولته، وهو ما لا يمانعنه أصلاً.
وصل الحال ببعض المتطرفات إلى حرمان بناتهن من ألعاب يخترنها بحجة أنها تنمي عندهن الجانب الأنثوي، أو يفرضن عليهن الشعر القصير لعدم تأجيج حسّ الإغراء. ويقرأ عن جنون النسويات الكثير، وهذا لا علاقة له بالحقوق واحترام إنسانية البشري وكرامته، بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو حتى عمره.
والمثير فيما يحدث أن الرجال صمتوا عن الهجوم المستمر منذ أكثر من ثلاثة أشهر على وسائل التواصل حتى قيل إن كل هذه القصص المشينة التي رويت حول ملايين حالات الاغتصاب والتحرش والوحشية الذكورية، لم تجد من يرد عليها. لكن الأكثر إثارة هو أن يأتي الجواب من نساء، وتصبح المعركة أنثوية وشرسة جداً. وواحدة من النقاط المهمة التي يتحدث عنها بيان دونوف هي الفرق بالذهنية بين المجتمع الأنغلوسكسوني الذي انطلق منه الغضب النسوي والمجتمع الكاثوليكي الذي تبنّى الفكرة وذهب بها بعيداً. فمن عورات الجمعيات النسائية ميلها إلى نشر المفهوم نفسه وتطبيقه في مجتمعات مختلفة، وهذا لا يساعد في حل المشكلات بقدر ما يعقدها.
فالوضع في مصر، حيث صنفت القاهرة منذ سنوات الأولى عالمياً بين العواصم المكتظة في نسبة التحرش، ليست كنيودلهي، كما أن لندن ليست كنيويورك، ولكل مجتمع خصوصيته التي يعرفها نساؤه ورجاله.
الأمر في غاية التعقيد رغم محاولة جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة تبسيطه كمعادلة رياضية واضحة. فما هو التحرش؟ الذي قد يبدأ بكلمة دافئة يُسمعِها شاب لزميلته في العمل وتذهب لتشتكي منه وتودي به، وقد يصل إلى الاغتصاب والعنف في حالاته القصوى. وثمة تحرش يستعاد رغم مضي عشرات السنين للثأر من رجل تسلق مركزاً، وأحياناً يدسّ بامرأة للإيقاع بأحدهم لغايات في نفس كارهيه.
كل هذا معلوم، ووضع شتى الحالات في سلة واحدة، وتحت عنوان موحد هو «التحرش»، أمر لا علاقة له بالحب والغزل، ولا حتى تحرير المرأة. والهجوم على الرجال حد القمع تحت عنوان «افضحي خنزيرك»، والتخويف والترهيب، لا يجعل المجتمع أكثر أدباً، ولا النساء أسعد حالاً.