أثارت حادثة تعنيف رئيس الوزراء التركي رجب إردوغان، لمتظاهر أمام الملأ، جدلا واسعا، بعدما تقاسمت الكثير من المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بث الفيديو الذي يصور الحادثة. وتأتي الحادثة أياما قليلة على واقعة مشابهة، بطلها مستشار رئيس الوزراء، الذي انهال هو الآخر ضربا على متظاهر سلمي أمام العموم. البعض أعطى تفسيرا للمشهد اعتمادا على أن الفيديو لم ينقل الواقعة كاملة. افتراضا، يمكن لحركة إردوغان تلك، أن تكون حالة طبيعية من حالات الدفاع عن النفس، أمام تهجم محتمل، من طرف متظاهر عنيف. ربما.. لكن، في أدبيات الحكم، أو ما يُصطلح عليه بواجب التحفظ لدى المسؤولين الحكوميين، فإن مثل هذا السلوك تطبق عليه ضوابط صارمة؛ فمثلا، لو حدث تصرف مماثل من طرف مسؤول منتخب، وفقا لبرنامج انتخابي على رأس قائمته، حيث تعهد المرشح باحترام الديمقراطية وعلمانية البلد - هذا إذا كنا نتكلم مثلا عن بلد ما ديمقراطي علماني - وإذا افترضنا أنه حدث في هذا البلد الديمقراطي، أيا كان هذا البلد، المهم أنه بلد الديمقراطية فيه ممأسسة، ما المصير الذي كان سينتظر هذا المسؤول الأول في الحكومة؟ بل وما مصير حكومته ككل؟ السؤال لا يحتاج إلى إجابة، وكما يقول اللغويون: «شرح الواضحات من المفضحات». ببساطة، هل كان الموقف يستدعي من رئيس الوزراء التركي ما حدث لمتظاهر محاط بعشرات من عناصر الموكب الحكومي، أم أن وراء استعراض تلك الحركة رسالة خاصة أراد إرسالها لمن يهمهم الأمر.
يطالعنا التاريخ عبر قصصه المثيرة والممتعة عن مستبدين مروا في هذه الدنيا، وكيف كانوا يحرصون على «تأديب» خصومهم بأيديهم. كانت تلك فرصتهم لتفريغ غضبهم، وكانوا يرون فيها أنجع طريقة ممكنة، لزرع الرعب في قلوب الخصوم، وتحويل صورة الحاكم إلى أسطورة مخيفة في مخيال الشعب بعد الخصوم. لحسن حظ السيد إردوغان، فتركيا، وإن كانت متقدمة جدا في مجال الديمقراطية، مقارنة ببعض بلداننا العربية، لا تزال بعيدة عن الديمقراطية الأوروبية، أو تلك الديمقراطية الممأسسة. لن أنكر هنا، فضل السيد إردوغان، الذي تعلمنا منه الشيء الكثير. تعلمنا منه كيف لا ننخدع في بهرج ديمقراطية البرامج الحزبية، وديمقراطية المخططات الرأسمالية؛ ديمقراطية رسمت أبعادها البرجوازية والرأسمالية المتوحشة، ديمقراطية خطوطها العريضة، ضمان السلم الاجتماعي، عبر زيادات في رواتب عمال وموظفي الرأسمالية والباطرونا التي أحاطها السيد إردوغان به، منذ قدومه إلى السلطة، التي تمكنت في ظرف وجيز من خلق حركة تنموية وامتصاص البطالة، في مقابل ذلك، تمتعت بالاستفادة من جملة من الامتيازات الضريبية والتشريعية، مما ضمن لها استغلال الثروات المنجمية والسطحية والبحرية وغيرها.
الديمقراطية الحقيقية في رأيي لا تأتي عبر شراء السلم الاجتماعي، أو عن طريق استقطاب القيادات النقابية لطاولات الحوار، والتفاوض على حقوق العاملين. أيضا، الديمقراطية لا تأتي من خلال برامج إصلاحية أو وصفات جاهزة يحملها الحزب إلى دواليب السلطة.
الديمقراطية الحقيقية لا تأتي إلا نتيجة كفاح طويل ومرير بين الطبقات الاجتماعية والاستبداد، والصراع الآيديولوجي بين النخبة التقدمية الحداثية والسلطوية والفكر الرأسمالي والإقطاعي، فمثلا إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي أصدرته الجمعية التأسيسية الفرنسية سنة 1789 بعد الثورة الفرنسية، ما كان ليعطي ثماره لولا كل تلك الإخفاقات والنكبات والثورات المضادة، وقيام جمهوريات متتالية بين ملكية ساقطة وأخرى صاعدة، فتحولت تلك الإخفاقات والانزلاقات إلى تجارب وخبرات استفاد منها الشعب الفرنسي بتحويلها إلى قوانين وتشريعات، لبناء آخر جمهورياته، وهي الجمهورية الديمقراطية الفرنسية الخامسة.
الإسلاميون والمحافظون في عالمنا العربي، لا يجدون أدنى صعوبة في ابتكار الأعذار لأخطاء إردوغان المتتالية، فهم بذلك يقنعون ذواتهم بأنهم تقاسموا زاد الآيديولوجيا مع زعيمهم الروحي، وإلا فإن الإحساس بالخذلان والخيانة لهذه الآيديولوجيا سيلاحقهم مثل العار، فإذا أقدم إردوغان مثلا، على قمع المتظاهرين السلميين، كما حدث في ساحة تقسيم، فله مبرره، وإذا قاد انقلابه على القضاء والشرطة ردا على جرأة القضاء العلماني الذي بلغ به الأمر محاكمة بعض من المقربين منه بتهم ملوثة لا تسعها الهالة الدينية المحاطة بالحزب، وفصل المئات من القضاة والضباط في عز أطوار المحاكمة، ودون حد أدنى لاحترام المحاكمة، فإن صياغة مبرر عريض من أبسط ما يمكن عمله، كالقول إن إردوغان قاد ثورة على فلول فتح الله غولن المتربص به. عندما اقتضت حكمة الرجل اتخاذ قرار انفرادي، دون الاحتكام إلى القضاء، بإغلاق جميع الصفحات الموجودة على «تويتر»، وإغلاق جميع الفيديوهات الموجودة على «يوتيوب»، ووأد حرية التعبير، ولو لفترة معينة، قبل أن يقرر إعادتها إلى الحياة، بسبب نشر مقطع تسجيل قيل إنه يتضمن تخابرا بينه وبين نجله، حول أموال غير مشروعة، فإن حكمة الرجل، عندما رأت في قتل حرية التعبير بحجبها للموقعين المذكورين في تركيا؛ فإنها لم تفعل ذلك إرضاء لغريزة القتل (قتل الحريات)، وإنما لأن في قتلها تتحقق رؤية الرجل، الذي يرى في قتلها ما لا يراه عامة الشعب، وهكذا، في نظر الإسلاميين والمحافظين، وجب الإذعان والقبول بحكمة الرجل المسؤول.
وفي محور الكلام عن المحافظين، وفي تغريدة للمحلل السياسي والكاتب المعروف، ياسر الزعاترة، على «تويتر»، بتاريخ 15 مايو (أيار) 2014، يقول معلقا على كارثة منجم سوما: «خصوم إردوغان يستغلون كارثة المنجم للتشويش عليه. يريدون جنازة ليشبعوا فيها لطما؛ ما جرى كارثة إنسانية تستدعي التحقيق، ولكن التكاتف أيضا».
هذا كان رأيا شخصيا للكاتب، وهذا حقه من دون جدال، وطبقا لحرية الاختلاف، لكن عندما يتناقض هذا الكاتب في مواقفه حول مواضيع إنسانية صرفة، بسبب حساسية سياسية، تصبح مواقف الكاتب هنا مثيرة للجدل.
حقا، هناك الكثير من الأمور التي تستحق المراجعة.
* مدون من المغرب