فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

تأملات حول «التفاهات»

لو افترضنا أن أحداً استلّ نفسه من كل فضاء التكنولوجيا الحالي لمدة ساعات أو أيام؛ فستتكشّف له مستويات الهدر الفارغ من الوقت على مشاهدة السخافات، أو تتبع الصغائر، أو الاهتمام بتوافه الأمور. ومع شدة التفريخ للتطبيقات الإلكترونية، صارت البضاعة الرديئة هي الطاغية والمتسيّدة للمشهد. هناك رعاية وحفظ وتعليب للتفاهة، وذلك بغية تحويل «التفاهة» إلى منتَج يستحق التصدير والتكرير والتعليب ومن ثم إغراء المستهلك به. هذا ما نتابعه من خلال تحوّل كثير من نجوم «السوشيال ميديا» إلى أصحاب رأي، أو كتّاب، أو إعلاميين... وهذه كارثة؛ إذ يتم استسهال واستباحة كل شيء، والأخطر حين يتصدرون المشهد بوصفهم موجِّهين لأبنائنا وصغارنا وذلك من خلال حفلات التهريج الاعتباطية.
قبل عقدين فقط من الزمان كان نشر مقالة أو الظهور في أي وسيلة إعلامية مرتقى صعب سلّمه؛ يحتاج الهاوي إلى تدريب ذاته، وصقل موهبته، ومن ثم الدخول، بعد صراع مرير، في غمار تجربة النشر والإعلام. مع الظاهرة السوشيالية بات الأمر أكثر سهولة، بل ثمة من يسخر الآن من قامات صحافية وثقافية وفكرية كبيرة في المجتمعات باعتبارها لا تعرف التكنولوجيا أو لا تتعاطى مع التطبيقات الحديثة مثل «تويتر»، و«سناب شات»، و«فيسبوك»، و«إنستغرام»؛ إذ تحاول هذه الفئة الصاعدة تدمير المنجز الثقافي والإعلامي السالف باعتباره من «آثار التاريخ»، وتحاول جيوش التفاهة أن تقتص من المنجز الحقيقي الثابت من خلال طوفان الثرثرة التي تنثرها على تطبيقات «السوشلة».
مع موجة الأنشطة الترفيهية الكبرى في السعودية ثمة ملاحظتان أساسيتان تتعلقان بجانب الصراع بين المنتج الحقيقي والآخر التافه المزيف؛ أولاهما: ضرورة الاستمرار في تجاوز استضافة نجوم «السوشيال ميديا» وذلك لأغراض الإنشاد أو التمثيل وإلقاء المحاضرات أو تجارب النجاح. والثانية: الانطلاق من الرقي الذي مثلته الفعاليات الترفيهية الشعرية والموسيقية وجعلها هي الأصل لأي عمل يوجَّه للمجتمع، وذلك بغية تنظيف الواقع من الدمامات التي رانت على جسده بعد طول إهمال، حيث تم تسليم المجتمع والواقع والمنصات كلها لأولئك النجوم، وسط تغييب وخوف من النقاد والأدباء والشعراء والملحنين وإتاحة المسارح لحفنة من الجهلة الذين ينشرون التفاهة بوصفها منتجاً متكاملاً يستحق التقدير والاغتباط.
لو تأملنا في المجتمعات التي حرست ذوقها من التلويث لوجدنا الاعتناء بعرض المنتج الحقيقي المبوّب والعميق على كل المستويات، وحين تكون لدينا دار أوبرا في الرياض - وهذا بإذن الله أمر قريب - فإن المنتج الذي يطرح فيها يجب أن يكون بمستوى المعروض في العالم؛ على كل المستويات الموسيقية والأوبرالية والمسرحية. ومن دون هذه العناية تتحول كل المشروعات إلى مبانٍ مفرّغة من المعاني، وإلى كهوف وتحف ضخمة من دون أي روحٍ تربي الذوق وتحرسه وتتعاهده، ولدينا نماذج ناجحة لدور الأوبرا في الإمارات وسلطنة عمان والكويت وغيرها يمكن الاستفادة منها والانطلاق من حيث انتهت.
مرّ زمن كنا نتخوّف فيه من نتائج وسائل «السوشيال» على مستويات انتشار الجريمة والمخدرات والإرهاب، والآن وبعد تصاعد المد الأمني الذي سيطر بشكلٍ لافت بالتعاون مع مُلاك تلك التطبيقات، بات لزاماً علينا تعاهد ذواتنا من آثار هذه الوسائل المدمرة والسارقة للوقت والحياة، والمسببة للأرق والوسواس، والساحبة للإنسان من علياء ذوقه وكبير اهتماماته إلى حضيض الكلام وتوافه القول وفلتات اللسان، وهذا أمر معيب على أهل المروءة التائقين إلى التأنق الوجودي والباحثين عن جلال الأخلاق والراغبين في الحفاظ على هيبة العلم والأدب والسمت.
إنها موجة جارفة، مثل تسونامي يمكن التحذير منه لكن يصعب إيقافه، ولكنه تحذير بين العقلاء أنفسهم؛ إذ يتعاهد بعضهم بعضاً بالنصح والإرشاد، وإلا فإن المجتمعات تتوجه كالقطعان طائعة باحثة عن الحتف الوجودي حيث دوّامة التفاهة التي لا يقع فيها الحمقى وحدهم؛ بل حتى بعض العقلاء والباحثين والأكاديميين.
يروي صالح علماني عن أمبرتو إيكو وصفاً مهماً أدلى به لصحيفة «لا ستمبا» الإيطالية عن وسائل «السوشيال» قال فيه: «إنهم يتكلمون مثل من يحمل جائزة نوبل؛ إنه غزو البلهاء».