سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

مبنى فيه مسمكة

قبل أن نبدأ البحث عن شقة في باريس، سألنا أحد أقرباء زوجتي المقيم في فرنسا، عن نصائحه. أجاب على الفور، ومن دون أي تفكير: تيقنوا من عدم وجود مسمكة في المبنى. لأنه بصرف النظر عن مدى علو الطابق الذي أنتم فيه، فإن رائحة السمك سوف تصل إليكم، في الليل وفي النهار، وحتى يوم تكون المسمكة مغلقة. وكان القريب العزيز يتحدث وعلى وجهه علامات الألم كأنه سكن ذات فترة قرب، أو في، سوق السمك.
ونظرت إلى زوجتي ثم نظرت أمامها إلى الأرض دون أن تقول شيئاً. وصمتها المدوي يعني في مثل هذه الحال: «ألم أقل لك»؟
ورحنا من جديد نبحث عن شقة في مبنى يبعد كيلومتر، على الأقل، عن أقرب مسمكة. بل تأكدنا من أن الشقة التي أعجبتنا تقع في زنقة ليس فيها دكاكين ولا بقالات ولا حتى بائعات ورد. ومرت الأيام الأربع الأولى في هدوء، نفتح النافذة فلا نسمع سوى صوت سيارة بعيدة، أو عصفور قريب. وذات صباح، قمت أفتح النافذة وأنا أقول لزوجتي: هل رأيت معنى الحياة في بلاد القانون؟ لقد كنا نعرف في بيروت، رغماً عنا، أن أولاد الجيران تأخروا في الذهاب إلى المدرسة، وأن ابنة جيران اليسار متشاجرة مع خطيبها، وأن الجار المقابل لن يعود مرة أخرى إلى خياط القمصان ولو على قطع رأسه.
وقبل أن أكمل السرد، جاءنا صوت «عزفة» بيانو على إيقاع الزلزال: تاتا! ومع صوت البيانو، صوت معلمة الموسيقى تقول في صوت آمر لتلميذتها: لا. ليس هكذا، بل هكذا، وتضرب بأصابعها البيانو على إيقاع الهزات: تاتو. تاتي.
وأغلقتُ النافذة، لكن صوت البيانو وصوت معلمة البيانو اقتحما الجدران القديمة، والزجاج المضاعف. وجلسنا ننتظر انتهاء «ساعة» الدرس الموسيقي فلم تنتهِ. ويبدو أن ذلك كان الدرس الأول، لأن الأمثولة لم تخرج عن الدرجة التاسعة على مقياس ريختر. ورحنا نتساءل، ما العمل؟ يحلها «أبو الحلول». قلت لزوجتي يبدو أن درس الموسيقى في الرابعة. نحن في هذا الوقت نخرج إلى الحديقة، أو إلى المكتبة، أو حتى عند الاضطرار إلى المقهى.
في اليوم التالي خرجنا عند الرابعة وعدنا في السادسة بتوقيت غرينتش. وفيما أضع المفتاح في الباب، شعرنا بارتجاج، ثم جاءنا الصوت المخترق: تاتا! ثم صوت المعلمة. ثم ضرباتها الغاضبة على مفاتيح ريختر. صرنا نجلس في البيت كل يوم ونحن نأمل في شيء واحد: عطلة للتلميذة، أو ضربة تضرب السيدة «ريختر». وبعد فترة التقينا القريب العزيز، فسألنا هل نحن مرتاحون في الشقة الجديدة: «جداً، لكننا نبحث عن مبنى فيه مسمكة».