د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الأحزاب الدينيّة... مسألة وقت

من الأفكار التي كانت مطروحة للنّقاش بقوة فكرة أن الإسلام السياسي واحد وإن تعددت أشكاله ونبراته. ولكن هذه الفكرة، كانت قوية الفرضيات قبل ظهور الفكر المتطرف الذي من تداعياته الأولى الجناية على الإسلام السياسي جملة وتفصيلا وأوقعه في حرج ومضايقات، لعل أخطرها اتهامه بأنّه يتحمل مسؤولية التأسيس الفكري والديني للعنف والإرهاب، من خلال إحياء مفاهيم معينة وتوظيفها في سياقات بعيدة عن الإسلام.
اليوم نحن أمام أحزاب ذات مرجعيّة إسلاميّة تشارك إما في الحكم أو في المعارضة، وفي مقابل ذلك نجد تنظيمات متطرفة هي المشكل الكبير والمأزق الحقيقي للشعوب الإسلاميّة. ويجب على جميع دولنا التوحد للقضاء على هذه التنظيمات نهائيا، ومحاولة الاستفادة من انحسار نفوذ تنظيم داعش.
إذن هذه التنظيمات المتطرفة والمتشددة هي المشكل ولا مفر من قطع دابرها نهائيا ومهما كان الثمن، لأن وجودها تشويش خطير ومؤلم ثقافيّا واقتصاديا وتنمويّا وحضاريا وكل شيء.
ولكن ماذا نعني بأن الإسلام السياسي مسألة وقت؟
ما نعنيه هو أن دخول الأحزاب الموصوفة بالإسلاميّة المشاركة السياسية، قد ورطها في ضرورة التكيف مع الحقل السياسي المنتمية له والمجتمع الذي ظهرت فيه، وأيضا مع الآخر الذي كان غير معترف به في فكر الأحزاب السياسية الإسلامية. ولقد حصل التكيف سواء كان مزيفا أو حقيقيا. فحصوله يكفي لأنه يعني التخلي عن بعض الأفكار وتجاوزها، وذلك في حد ذاته تحول نوعي كبير، لأن فكر الإسلام السياسي شمولي وكلي، وعندما يتم تجاوز بعضه أو القبول في إطار المشاركة بما يناقضه، فإن النّسق الفكري كلّه يتصدع.
من هذا المنطلق يصبح التكيف بالنظر إلى مرجعيات الإسلام السياسي وفكرها الصلب، بمثابة الخيانة للمرجعيات، وهو أيضا تحول يتخذ أسماء مقنعة مثل: التكيف.
يجب أن نضع في أذهاننا معطى مهما للغاية، وهو أن العالم الحديث والمعاصر تشكل على نحو لا مكان فيه للأحزاب الدينية: بدءا من هوية الدولة المدنية، ومن عقلنة المجتمعات، ومن انتشار قيم جديدة مثل قيمة المواطنة، وتعلق الشعوب بالديمقراطية والمساواة بين جميع الناس.
إن المدنيّة والمواطنة والمساواة والديمقراطية قيم ذات جاذبية، وإذا واصلنا السير في مسار تبني هذه القيم والتعاطي معها بجدية واعتقاد حقيقي، فإن ذلك في حد ذاته سيكون مانعاً لظهور الأحزاب الدّينية والانتماء إليها.
من جهة ثانية، وفيما يخص الأحزاب الدينية الناشطة اليوم سواء في الحكم أو في المعارضة، فهي محكومة بشروط الداخل والخارج ولا حل لها سوى المرونة والإيجابية والتكيف. فالتكيف أصبح اليوم مصدر وجودها واستمرارها.
ولكن يبدو لنا أن التكيف والمزيد من التكيف سيكونان سبب اندثار الأحزاب الدينية في المستقبل، وما سيُحدد قرب هذا المستقبل أو بعده هو تجارب التحديث في مجتمعاتنا، ومدى تأثير التحديث المادي على دينامية الرأسمال الثقافي العربي الإسلامي، باعتبار أن التحديث المادي الطابع إنّما هو أيضا حامل لثقافة أصحابه الأوائل والجدلية بين المادي والقيمي في الحداثة، تمثل أمرا بنيويا.
صحيح أن الديمقراطية تقبل بكل الأطراف الفاعلة وتمنحها الحق في الوجود والمشاركة، ولقد استفادت الأحزاب الدينية في بلداننا من لعبة الديمقراطية حتى انتهى الأمر ببعض اليساريين والعلمانيين بهجاء الديمقراطية التي أوصلت الإسلاميين إلى الحكم. ولكن أظن أن هذا التفكير متسرع، ولا ينظر إلى الأفكار التي تتغذى منها الديمقراطية وتعيش وتنمو وتكبر إلى أن تصبح عريقة.
فالديمقراطية ترحب بالجميع تاركة الحكم للأغلبية في الشعب، والفصل لصناديق الاقتراع، ولكن تجربة الديمقراطية إنما تقوى بالمدنية والمواطنة الفعلية، وهما قيمتان تطردان تدريجيا الأحزاب الدينية من الحقل السياسي ومن المجتمع كله، لأن الدولة المدنية تصبح تعبيراً عن مصلحة الجميع، وهي الضامنة للمساواة لجميع الأعراق والأديان، ومن ثم لا حاجة للأحزاب الدينية، ولا قيمة لمشروع سياسي يتكئ على قراءة مخصوصة للمرجعية الدينيّة.
بمعنى آخر، فإن إقبال فئات عريضة من شعوبنا على الأحزاب الدينية من المهم أن نعقلنه ونفكر فيه: فهو رد فعل وليس فعلا تلقائيا مؤسسا على اختيارات صحيحة. هناك علاقة تعويض غير مضمونة التعويض تقيمها فئات من شعوبنا مع الأحزاب الدينية. أي أنه يكفي انتفاء الحاجة التعويضية حتى تنتفي وظيفة الأحزاب الدينية في مجتمعاتنا.
إن الحل لا يكون إلا ديمقراطياً ومدنياً.
هكذا فقط تتعزز ثقة شعوبنا في مؤسسة الدولة، وهكذا أيضا تنخرط قسريا الأحزاب الدينية التي أمنت لها الديمقراطية حق الوجود والمشاركة في المصادقة على القوانين المدنية، وكل ما يعزز ثقافة المواطنة.
فالتكيف الجزئي والشامل يخلق مع تراكم مظاهر التكيف أحزابا دينية لينة وسائلة، أي أننا نصبح أمام أحزاب سياسية مدنية لا علاقة لها بالديني. ودليلنا على ما ذهبنا إليه اضطرار حركة النهضة التونسية مثلا إلى الفصل بين الدعوي والديني، لأن زحف السياسي واستحقاقات المدنية ستضرب البعد الدعوي للحركة، الذي قامت عليه أساسا. وهي حركة استباقية ذكية. ولكن تبقى هناك تساؤلات أخرى!