علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

خطأ الاستنجاد بالمثال الشيوعي

أستاذة دلال البزري...
تعرفين أنه في الآيديولوجية الأم، وفي الآيديولوجيات المنشقة عنها، كما في مثال التجربة الشيوعية، حدث نزاع وصراع ونقد جذري وتبادل اتهامات عقدية ونظرية وأخلاقية، تتعلق بالفهم الصحيح للنظرية وبالتمسك بمبادئها، وادعاء تمثلها وتمثيلها على نحو مستقيم وصافٍ ونقي. مثل هذا الأمر لا نجد منه شيئاً في أدبيات الإخوان المسلمين، وفي أدبيات جماعة العنف الدينية طيلة سنوات السبعينات والثمانينات والتسعينات. وهذا ما أبنته في رسالتي السابقة في أن العلاقة بينهما كانت علاقة عضوية وتعاضدية.
إن قولك الذي ناقشته في رسالتك تلك، مستسقى من دعاوى إخوانية مردّدة ومسرفة في تبريرها. والجديد في تبريرك هو وضع الإخوان المسلمين وجماعات العنف الدينية مع الشيوعية العالمية، وحركات الغضب الشيوعي المسلح، في سياق مقارن، كما في قولك: «انشقت عن الشيوعية الأم حركات مسلحة قامت بأعمال إرهابية، احتجاجاً على فشلها في بلوغها السلطة، وعلى سياسة السوفيات الانتهازية. نشأت هذه الحركة في ألمانيا (بادرماينهوف)، في اليابان (الجيش الأحمر)، في الأوروغواي (التوباماروس)، في إيطاليا (الألوية الحمراء)... إلخ». وخلصت في قولك هذا إلى أن «الشيوعية التي لم تلبِّ وقتها تطلعات الشباب الجذرية جداً، عرفت ما سوف يعرفه الإخوان المسلمون بعد إخفاقاتهم، بل قد يكون نظام الأواني المستطرقة قد اشتغل أيضاً مع (الإخوان): بأن يكون عضو في تنظيمهم قد انضم إلى الإرهاب في لحظة إحباط سياسي، فذهب إلى القتل والخطف والتفجير. مع الشيوعية كما مع الإخوانية...».
بصرف النظر عن أن مقارنتكِ هذه كانت مقارنة عرجاء، فالإخوان المسلمون في أثناء نشأة جماعات العنف الدينية وصعودها لم يكونوا قد استولوا على السلطة في مصر بواسطة «ثورة إخوانية إسلامية»، ولمصلحة هذه الثورة وحمايتها أعلنوا أنهم سيقيمون «الإخوانية الإسلامية» في بلد واحد... وأنشأوا علاقات دبلوماسية وعلاقات مساندة ودعم مع حكومات تضطهد الإخوان المسلمين والحركات الإسلامية الأخرى في بلدانها، وتحالفوا مع أحزاب وقوى ودول هي من أعدائهم الآيديولوجيين، وصنعوا كل ما يعتبره المتشددون في الإخوانية الإسلامية مهادنة ومساومة، وتنازلاً وتناقضاً وتفريطاً في الآيديولوجيا الإخوانية. كما كان الاتحاد السوفياتي في شيوعيته من وجهة نظر اتجاهات ماركسية متطرفة.
وبصرف النظر عن أنك لم تخدمي الإخوان المسلمين في هذه المقارنة، إذ إنكِ شابهتهم فيها بالاتحاد السوفياتي الذي وصفت سياسته بالانتهازية، وجعلت من سياسته الانتهازية أحد سببين لانشقاق حركات مسلحة إرهابية، وهي الحركات التي ذكرتها.
وبما أنك شابهتهم بالاتحاد السوفياتي الذي وصفته بالانتهازية، فهذا يعني أن هذا الوصف ينسحب عليهم أيضاً! فأنت هنا أدنتهم من حيث أردت تبرئتهم بمقارنتكِ تلك.
وبصرف النظر عن أن تطبيقك قانون الأواني المستطرقة على التجربة الإخوانية وعلى التجربة الشيوعية، كان غامضاً ومشوشاً. أقول: بصرف النظر عن هذا كله، فإن استنجادك بالمثال الشيوعي إذا ما نظرنا إلى ذلك المثال من رؤية أخرى، أرى أنه حجة عليك وعلى الإخوان المسلمين. وأرى أن هذه الرؤية - من ناحية موضوعية ومنهجية - هي الأنسب أن ننظر وفقها ونحن نستحضر ذلك المثال:
نشأت الشيوعية ونشأ الإخوان المسلمون في مصر في غضون عقد واحد من الزمن، وهو عقد العشرينات من القرن الماضي. ونما نشاطهما في أربعيناته. وتعرض نشاطهما لبعض التضييق وسجن بعض الشيوعيين وبعض الإخوان في العهد الملكي. وفي عهد عبد الناصر تعرض الشيوعيون والإخوان المسلمون للقمع والتعذيب في السجون بالدرجة نفسها. ولجأ بعضهم إلى المنافي. وفي عهد السادات تعرض اليسار ككل للمضايقة والاضطهاد، مما تسبب في هجرة عدد من الصحافيين والمثقفين إلى خارج مصر. أما الإخوان المسلمون، وكذلك الجماعات الدينية المغالية الناشئة، فكان هذا العهد عهد خير وبركة عليهما. وكان الشيوعيون قد تنعّموا بشيء من هذا في السنوات الأخيرة من عهد عبد الناصر.
الشيوعيون على خلاف الإخوان المسلمين، وعلى خلاف الإسلاميين والدينيين عموماً، كان لديهم نظرية في الثورة ترتقي إلى مصاف العلم. كما أن العنف والإرهاب في سبيل الاستيلاء على السلطة في آيديولوجيتهم مستحث عليه ومشرعن، شرط ألا يكون هذا العنف والإرهاب فردياً وفوضوياً، أي أن يكون عنفاً منظماً يسير كما يرون مع حركة التاريخ، ويعبر عن وضعية ثورية، وهو ما يسمونه العنف الثوري.
ولديهم نظرية الثورة المستمرة ونظرية الكفاح المسلح، والكفاح الممتد الشاق، ونظرية حرب العصابات وحرب المدن وأقوال هي بمنزلة النصوص الدينية المأثورة عند المؤمنين التقاة، تحرض على العنف والثورة والكراهية والحقد الطبقي، مخيفة ومرعبة.
مقارنة كهذه بين الشيوعيين والإخوان المسلمين في مصر تستدعي الإطار المرجعي للتيار الأول بشقه النظري وبشقه الممارس، تجعلنا نسأل: لماذا لم تتجه التنظيمات الشيوعية المصرية نحو طريق العنف والإرهاب في العهد الملكي، وفي عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، رغم أنها كانت مهيأة لذلك نظرياً وعملياً وغائياً؟ ولماذا سلك الإخوان المسلمون هذا الطريق في العهد الملكي وفي عهد عبد الناصر؟
ولماذا اندلع العنف الديني السياسي في عهد السادات، مع أنه كما قلنا عهد خير وبركة على الإخوان المسلمين وعلى الجماعات الدينية المغالية الناشئة وقتذاك؟!
ولماذا لم يتأثر النشاط الطلابي السياسي الشيوعي المعارض للسادات بتيارات الغضب الشيوعي المسلح، رغم أنه كان متعلقاً بنماذج نضالية عالمية في اليسار الجديد، ورغم اتصافه كما كان يقول عنه اليسار المصري الرسمي بالاندفاع والطيش والتهور؟
سيدتي...
بعد استنجادكِ بالمثال الشيوعي دفاعاً عن الإخوان المسلمين، لخصت المشوار الإخواني الطويل في سعيهم المحموم للاستيلاء على السلطة في مصر، بشيء من المأساوية. فقلت في تخليصك: «تسعون عاماً تقريباً من السعي إلى السلطة، تصدّت العصبية العسكرية له التي ارتدت لباس العلمنة، حيناً؛ (الرئيس المؤمن)، أو الممارسات الدينية أمام الشاشة، حيناً آخر... وفي كل مرة يخفق (الإخوان). وكان الإخفاق الأخير مدوياً».
أكاشفكِ أني لأول وهلة اعتقدت أن سطورك هذه بها سقط، فأن يتلقّب أنور السادات بالرئيس المؤمن، فليس في هذا اللقب تَزَيٍّ بزي علماني، ولقب الرئيس المؤمن والممارسات الدينية هما حين واحد متسق وليسا حينين متعارضين متدابرين. كما أن التلقب بذلك اللقب، وكذلك الممارسات الدينية، إذا ما كان تظاهراً وادعاءً، لا يتنافى والتظاهر بالعلمانية وادعاءها، فالمتظاهر بالعلمانية ومدّعيها يلبس لكل حالة لبوسها المناسب لها.
بعد تمعن في تلك السطور فهمت ماذا تريدين القول فيها، وعرفت أن ليس بها سقط، وإنما صُغتِها من دون تأنٍّ كافٍ، مع استصحاب نزعة يسارية راديكالية لا ترضى أن تكون علمانية الدولة ما دون العلمانية الصلدة، وهي النزعة التي كانت تحكمك في ماضيك السياسي والفكري، وغفلت أن ما استصحبتِه من ذياك الماضي، لا يتناسب وتحولك إلى انفتاح علماني مفرط على الإسلاميين وعلى الإخوان المسلمين بوجه أخص. وأقول عنه إنه مفرط لأنك تتكلفين في مرافعتك عن تاريخهم السياسي والفكري، وتتعسفين في إضفاء بُعد وطني وقومي وليبرالي ويساري على بعض توجهاتهم.
إنني لا أشك أنك صغت تلك السطور من دون تأنٍّ كافٍ، بدليل أنك في أولها خلطتِ ما بين تاريخ نشأة جماعة الإخوان المسلمين، وتاريخ صراعهم على السلطة الذي بدأ سنة 1952، مع نجاح الضباط الأحرار في الاستيلاء عليها، وهو الصراع الذي كان مقالك يعالجه. الصراع ما بين ما سميته عصبية عسكرية، وما سميته عصبية إخوانية.
وبدليل أن العصبية العسكرية التي زعمت أنها ارتدت لباس العلمانية، لم نعرف فيها سوى رئيس واحد، وهو الرئيس أنور السادات، لأنه كان قد تلقّب بالرئيس المؤمن، فأين الباقون: أين عبد الناصر؟ وأين حسني مبارك؟
إن العصبية العسكرية لم تكن بحاجة إلى أن تتظاهر بالعلمانية وتدعيها في شرعية نظامها السياسي، لأن الحكم في مصر قائم في الأساس على شرعية علمانية منذ زمن محمد علي باشا. وما كان طارئاً حين نشب الصراع على السلطة ما بين الضباط الأحرار والإخوان المسلمين، هو الحكومة الدينية التي كان يريدها الإخوان المسلمون في ذلك الوقت.
وكون عبد الناصر والسادات ومبارك علمانيين وفي الوقت عينه مؤمنين دينياً، يؤدون الفرائض والشعائر الدينية، فذلك اعتقاد وسلوك متوائم وليس فيه تنافر إلا عند غلاة العلمانيين وغلاة الإسلاميين.
إن غلاة العلمانيين، خصوصاً ذوي التوجه الشيوعي المتصلب، كانوا يتهمون العديد من الحكام العرب العلمانيين بالنفاق الديني، ويدّعون أنهم لا يصلون ولا يعتمرون ولا يحجون إلا أمام شاشات التلفزيون!
وهذا الاتهام كان يقوله غلاة الإسلاميين، خصوصاً أصحاب الإسلام المسيّس.
دافع الاتهام عند الفريق الأول ومنطلقه علماني حدّي، يرفض أن يكون العلماني من أي دين ممارساً لطقوسه الدينية.
ومحفز الاتهام عند الفريق الآخر وغايته بث الاعتقاد أن الحاكم كافر وحكومته كافرة لتأجيج الثورة عليه وعلى حكومته.
إننا هنا أمام لقاء عجيب بين فريقين، كان يرى وقتها كل واحد منهما في الآخر عدوه السياسي والعقائدي المبين.