هال براندز
كاتب من خدمة «بلومبيرغ»
TT

صراع القوتين العظميين حول معاهدة الصواريخ النووية

تلقى جهود الرئيس دونالد ترمب المستمرة للتودد إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بظلال قاتمة على السياسة الخارجية الأميركية. ومع هذا، يبقى بصيص من أمل فيما يخص روسيا، ذلك أن ثمة تقارير تشير في الوقت الحالي إلى أن «البنتاغون» شرع في إجراء دراسة أولية حول بناء صاروخ «كروز» يُطلَق براً من المفترض أنه محظور تبعاً لشروط معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى. في الواقع، تبدو هذه خطوة طال انتظارها نحو جعل روسيا تتكبد ثمن انتهاكاتها لهذه المعاهدة، وربما منح أميركا ميزة استراتيجية في إطار عالم ما بعد معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى.
جدير بالذكر أن المعاهدة وَقَّعها الرئيس رونالد ريغان ونظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشوف عام 1987، وشكلت اتفاقاً تاريخياً على صعيد جهود السيطرة على الأسلحة بين القوتين العظميين عالمياً في حقبة الحرب الباردة.
وبدلاً من مجرد فرض حد أقصى لعدد الأسلحة ووسائل الإطلاق التي تملكها واشنطن وموسكو، ألزمت المعاهدة الطرفين بالقضاء تماماً، وعلى نحو يمكن التحقق منه، من صواريخ «كروز» والصواريخ الباليستية التي تُطلَق براً، ويتراوح مداها بين 300 و3400 ميل. وشكل هذا الاتفاق خطوة راديكالية نحو خفض التصعيد، بل والدفع بسباق التسلح في الاتجاه المعاكس.
إلا أن معاهدات السيطرة على الأسلحة تنجح فقط عندما يلتزم بها الطرفان، وفي الفترة الأخيرة تعمد الكرملين الالتفاف عليها. على مدار سنوات، نما إلى علم الولايات المتحدة أن روسيا تعكف على تطوير واختبار صواريخ «كروز» تنطلق براً «إس إس سي - 8» بمدى يكفي لانتهاك شروط المعاهدة، رغم أن موسكو نفت مراراً أن الصاروخ يشكل خرقاً للمعاهدة.
عام 2014، وجهت وزارة الخارجية الأميركية هذا الاتهام مباشرة إلى روسيا، وسعت إدارة أوباما نحو دفع روسيا للالتزام بالاتفاق عبر جهود التعاون الدبلوماسية، إلا أنه، مطلع عام 2017، ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز» أن القوات الروسية نشرت سراً كتيبتين من «إس إس سي - 8»؛ واحدة جنوب روسيا والأخرى بموقع آخر غير معلوم. وعليه، تحول اليوم ما كان يشكل ذات يوم اتفاقاً تاريخياً إلى ما يشبه شارعاً يسير في اتجاه واحد، ذلك أن الولايات المتحدة أصبحت الطرف الوحيد الملتزم بمعاهدة 1987.
ولم تكن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الاتفاق الوحيد الذي خرقته روسيا، فقد قررت موسكو «تجميد الالتزام» بمعاهدة القوات المسلحة التقليدية في أوروبا عام 2007. واليوم، أصبحت تجري بانتظام تدريبات عسكرية واسعة النطاق تنتهك بنود المعاهدة، مثل تدريبات «زاباد 2017». وثمة شكوك متنامية حول أن روسيا تنتهك معاهدة «ستارت الجديدة» للسيطرة على الأسلحة، التي وقّعتها إدارة أوباما عام 2010، عبر تعطيلها صواريخ «إس إس - 25» بصورة غير دائمة. وتضم قائمة الاختراقات الروسية كثيراً من العناصر الأخرى.
حتى الآن، واجهت واشنطن صعوبة في الاستجابة لهذه الانتهاكات، ذلك أن روسيا ببساطة تجاهلت أو نفت الاتهامات الأميركية بعدم الالتزام بالمعاهدات، بل وتعمدت أحياناً التعتيم على نشاطاتها من خلال إطلاق تهم مضادة، وأيضاً بسبب تردد إدارة أوباما إزاء التحرك نحو وضع نهاية لالتزامها بمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، ما دام هناك أمل ولو ضئيلاً في إنقاذها.
الآن، ومع نشر الروس بالفعل الصاروخ المحظور، يبدو أن ثمة توافقاً في الآراء بين الكونغرس و«البنتاغون» والناتو، بأن الوقت قد حان للشروع في فرض ثمن باهظ على الكرملين.
في الفترة الأخيرة، وافق الكونغرس على تخصيص 58 مليون دولار لجهود البحث والتطوير لصاروخ «كروز» متوسط المدى ينطلق براً، وأوضح مسؤولو «البنتاغون» رغبتهم القوية في المضي قدماً في هذا الأمر. بيد أنه ينبغي التنبه هنا إلى أن جهود البحث والتطوير تختلف عن الاختبار والإنتاج والنشر، ولا تشكل في حد ذاتها خرقاً للمعاهدة، لكنها أساس يمكن البناء عليه سريعاً حال رفض روسيا الانصياع مجدداً لشروط المعاهدة.
ويُعتَبَر هذا تحركاً جيداً من الناحية الاستراتيجية لسببين: أولاً: يجب أن يقر حتى أولئك الراغبون في إنقاذ معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى بأنه ليس هناك إمكانية لدفع روسيا نحو الالتزام بالمعاهدة من جديد، إلا إذا أدركت حكومة بوتين أن عدم التزامها بالمعاهدة يحمل وراءه ثمناً فادحاً. ولا يمكن بأي حال السماح للروس بالاستمرار في انتهاك المعاهدة، مع الاستمتاع في الوقت ذاته بجميع مزاياها. أما إذا أبدت الولايات المتحدة استعدادها لتطوير صواريخ متوسطة المدى خاصة بها - يمكنها ضرب أهداف روسيا من أوروبا - فإن المعادلة قد تبدأ في التغير أمام بوتين.
ثانياً: من شأن هذه الخطوة الأميركية معاونة واشنطن على صياغة نموذج استراتيجي جديد، حال التخلي عن المعاهدة تماماً. ويجب أن نتذكر أن اتفاقات السيطرة على الأسلحة ليست مقدسة، وإنما تصبح منطقية فقط، إذا ما عززت الاستقرار الدولي والمصالح الأميركية. ومن الواضح أن معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى لا تخدم أياً من الهدفين في الوقت الراهن.
في الواقع، إنها تفرض ثمناً مزدوجاً على واشنطن الآن، لأنها تحظر أيضاً على «البنتاغون» تطوير أسلحة متوسطة المدى، ربما تفيد في التصدي للتهديد الصاروخي الصيني في غرب المحيط الهادي. المعروف أن الصين ليست طرفاً في معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، وبالتالي غير ملتزمة ببنودها. وقد عكفت بكين بالفعل على تطوير قوة ضاربة من الصواريخ الباليستية و«كروز» لاستهداف سفن وقواعد أميركية.

* بالاتفاق مع «بلومبيرغ»