علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

«معالم في الطريق» والرواية الناصرية

أستاذة دلال البزري...
لا يمكن النظر إلى كتاب (المعالم) بمعزل عن تنظيم 1965، الذي كان يزعم الإخوان المسلمون أنه تنظيم لا وجود له، وإنما اخترعه النظام الناصري. زينب الغزالي -لأنه كان لها دور محوري فيه- كانت غير راضية عن إنكار وجوده. لهذا خالفت الإخوان المسلمين فيما اتفقوا عليه واعترفت بوجوده في كتابها الشهير (أيام من حياتي) الذي صدرت أول طبعة منه في أواخر سنة 1978.
وكان قبلها أحمد رائف الذي كان له دور ما في تنظيم 1965، قد شقَّ ذلك الإجماع الإخواني، واعترف بوجوده في كتاب هو الآخر شهير وهو كتاب (البوابة السوداء) الذي صدر أول مرة في عمّان سنة 1974، وكان هذا الكتاب في سبعينات القرن الماضي، وأول ثمانيناته غير معروف بدرجة كافية. ربما لأن الإخوان المسلمين كانوا غير راضين عن اعترافه بوجود التنظيم، ولأنهم كانوا معترضين على بعض ما جاء في كتابه. وفيما يظهر أنه وصل معهم إلى اتفاق فحذف منه ما اعترضوا عليه، وأعاد طبعه سنة 1985، وتوالت طباعته بعد ذلك وغدا الكتاب شهيراً. وما بين أيدينا هو تلك الطبعة المنقحة التي تسمى الطبعة الشرعية!
العجب في أن الإخوان المسلمين في مجلاتهم وفي بعض الكتب التي أصدروها كانوا ينكرون وجود ذلك التنظيم، مع اعتراف الكتابين السالفين بوجوده. ولم يعترف الإخوان المسلمون بوجود تنظيم 1965، إلا في سنوات متأخرة. وأفضل مصدر أمدّنا بمعلومات عنه، هما كتابان لاثنين من مؤسسيه ومن قيادييه. الكتابان هما: كتاب أحمد عبد المجيد عبد السميع (الإخوان وعبد الناصر القصة الكاملة لتنظيم 1965)، وكتاب على عشماوي (التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين)، الصادران في زمن متأخر.
وكما أن لـ«الإخوان» روايتهم حول كتاب سيد قطب (المعالم)، فإن للناصريين روايتهم حوله. صاحب الرواية الناصرية هو الصحافي والباحث الناصري عبد الله إمام، فلننظر فيما قاله عن هذا الكتاب وعن ماذا كان موقف عبد الناصر من هذا الكتاب:
«عندما طبع الكتاب لأول مرة، كان هناك اعتراض على طبعه ومُنع فعلاً... والرئيس عبد الناصر يقرأ كل الكتب باهتمام وبخاصة التي تُمنع، وعندما قرأ مسودته، اتصل بالمسؤولين، وقال لهم إنه لا يمانع في طبعه... وطُبع الكتاب.
وبعد شهر كانت هناك معلومات أمام الرئيس بأن الكتاب يعاد طبعه، فهل يسمح بإعادة طبعه، ووافق الرئيس.
وتكرر الأمر بعد ذلك ثلاث مرات خلال ستة أشهر... وفي المرة الرابعة عند ما جاءت معلومات للرئيس بأن الكتاب يعاد طبعه، أعاد قراءة الكتاب وأرسل نسخة منه إلى المباحث العامة وقد كتب عليها: هناك تنظيم جديد لـ(الإخوان)... للتحري. أي أنه اكتشف بحسّه من مجرد قراءة الكتاب، وإعادة طباعته بهذا الشكل أن هناك تنظيماً».
نلحظ في هذه الرواية أنها مجملة وليس فيها تفصيل، لكن من إجمالها نعرف أن ثمة تقريراً استخباراتياً رُفع إلى عبد الناصر شخصياً من جهة لم يحددها الكاتب، ينبّه إلى أن الكتاب هو قيد طبعة ثانية بعد شهر من طباعته الأولى، فهل يأذن بإعادة طبعه، فأذن بذلك.
وخلال 6 أشهر ما بين عامي 64 و1965 أُعيد طبعه 3 مرات، ومع كل طبعة كان يُرفع إليه تقرير ينبه إلى ذلك، وكان لا يرى بأساً في إعادة طبعه، لأنه كان لا يساوره شك في هذا الأمر. وفي المرة الرابعة ادّعى الكاتب أنه عندما وصله تقرير ينبّه إلى أن الكتاب قيد الطبع، أعاد قراءة الكتاب وأرسل نسخة منه إلى المباحث العامة التابعة لوزارة الداخلية، وكتب على النسخة هذه العبارة «هناك تنظيم جديد لـ(الإخوان)... للتحري»!
من خلال هذه الرواية نعرف أن عبد الناصر قرأ الكتاب مرتين: الأولى قرأه وهو مسودة، والثانية قرأه وهو في طريقه إلى طبعة سادسة. وفي القراءة الثانية ادّعى الكاتب أن عبد الناصر اكتشف بحسه العالي من مجرد قراءة الكتاب، ومن ملاحظة أن الكتاب أعيدت طباعته مرات عدة في غضون مدة زمنية ليست طويلة، أن وراء الكتاب تنظيماً سياسياً جديداً لـ«الإخوان المسلمين»!
خاتمة هذه الرواية التي تجعل عبد الناصر هو الذي اكتشف من خلال قراءته الكتاب أن وراءه تنظيماً جديداً لـ«الإخوان» مشكوك فيها، فالكاتب قد نسي أنه كان يرد إلى عبد الناصر في روايته تقارير تلفت نظره إلى أن الكتاب يعاد طبعه ابتداء من الطبعة الثانية، لكنه لم يعرها اهتماماً.
إن قراءة الكتاب الذي عُرف فيما بعد أنه دليل نظري موجز ومكثف لتنظيم سياسي جديد، لا يمكن أن توصل إلى أن وراءه تنظيماً، ما لم تتوفر معلومات أخرى عنه.
والحق أن اكتشاف التنظيم الذي سمّته السلطة تنظيم 1965، هو الذي قاد إلى معرفة موقع الكتاب في التنظيم ودوره، وماذا يشكل لدى أعضائه، وليس العكس، كما ذهب عبد الله إمام إلى ذلك، لمجرد إسباغ المديح على عبد الناصر.
فيما يتعلق بإعادة الطبع، أودّ أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن جهة الإصدار لم تنصّ، على غلاف الكتاب، أن هذه النسخة منه طبعة ثانية أو ثالثة، إلخ... لذا فإن التقارير كانت مبنية على معلومة داخلية، قد يكون أحد مصادرها أحد العاملين في المطبعة.
إن تنظيم 1965 الذي أنشأته مجموعتان من شباب الإخوان صغار السن على غير اتفاق ومعرفة وتنسيق بينهما سنة 1957، ثم توحدتا بعد ذلك سنة 1962، هو أخطر تنظيم سياسي انقلابي واجهه حكم عبد الناصر. هذا التنظيم كان متعدد الإمكانات والخبرات وحقق اختراقات لأكثر من دائرة وجهاز في السلطة، رغم أن مُنشئه عصبة من الشباب المغامرين، وأن الدولة كانت دولة بوليسية. وقد سمته السلطة تنظيم 1965، لأن اكتشافه لم يتم إلا في تلك السنة.
هذا التنظيم مثّل هزيمة داخلية لنظام عبد الناصر على صعيد جهاز الحكم الممثل في وزارة الداخلية والمباحث العامة، وعلى صعيد الآيديولوجيا الناصرية الممثلة، على وجه خاص، في الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الداخلي فيه المسمى طلائع الاشتراكيين – وهو تنظيم سري – الموكل إليهما بث الدعاية للقومية العربية وللاشتراكية في القُطر المصري. مثّل هزيمة داخلية، للأسباب التالية:
أن التنظيم أنشئ من سنوات عدة، ومع هذا لم يتم العثور عليه إلا في سنة متأخرة من إنشائه. وصل إلى عبد الناصر في سنة متأخرة من نشأة ذلك التنظيم تقرير من أعضاء في تنظيم طلائع الاشتراكيين وتحديداً من أعضائه الشيوعيين يفيد بأن ثمة تنظيماً جديداً لـ«الإخوان المسلمين» في محافظة الدقهلية، وحوّل عبد الناصر هذا التقرير إلى وزير الداخلية اللواء عبد العظيم فهمي، ورد الوزير – استناداً إلى إفادة من المباحث العامة – بأنه لا توجد إمكانية للاستدلال على نشاط حقيقي لـ«الإخوان»، وأثار الشكوك حول صحة معلومات التقرير.
وأمام إصرار شيوعيي طلائع الاشتراكيين على صحة ما جاء في تقريرهم حوّل عبد الناصر التقرير مرة أخرى إلى وزارة الداخلية. وردّت الوزارة والمباحث العامة بالرد السابق نفسه. فكلف عبد الناصر جهاز المباحث العسكرية في وزارة الحربية بمهمة البحث عن هذا التنظيم، بعد فشل وزارة الداخلية والمباحث العامة في أداء مهمتها. يعترف شمس بدران وزير الحربية، الذي كُلف تولي أداء تلك المهمة والذي نجح في أدائها جهازه، جهاز المباحث العسكرية، أن اكتشاف التنظيم تحقق بفضل بعض حوادث حصلت، عرفوها بمحض الصدفة.
أحدث كتاب سيد قطب (في ظلال القرآن) بعد طبعته المنقحة انقساماً كبيراً في صفوف الإخوان المسجونين، كذلك أحدث الأمر نفسه كتابه (المعالم) الذي صدر بعده بسنوات من صدور تلك الطبعة المنقحة. وكان بعض القيادات المسجونين معترضين على إحياء التنظيم مجدداً، وهددوا أصحابه بإبلاغ السلطة عنهم لخوفهم مما سيجره عليهم من مصائب ونكبات. وهذه القيادات كانت معترضة على طبع كتاب (المعالم) الذي كانوا قد قرأوا مسودته، وكانت معترضة على إعادة طبعه، لأنه في نظرهم، سيفضح خبر التنظيم الجديد، وهو الأمر الذي لم يحصل. هذه المعلومات لم تعرف السلطة بها إلا في أثناء التحقيقات التي أُجريت بعد اكتشاف التنظيم!
تحت وطأة شعور عبد الناصر أن تنظيم 1965 حقق انتشاراً في صفوف طلاب الجامعات والمتخرجين منها حديثاً، وأنه قد استطاع أن يستقطب عسكريين شباباً، ومنهم من كان أقرب إليه من حبل الوريد، أنشأ سنة 1966 منظمة الشباب الاشتراكي لعلها تنجح فيما لم ينجح فيه الاتحاد الاشتراكي، وقبله الاتحاد القومي الذي نشأ في ظله تنظيم 1965.
هذا هو تنظيم 1965 الذي كان الإخوان المسلمون ينكرون وجوده في أدبياتهم ومنشوراتهم. ولأن هذا التنظيم – كما قلنا – مثّل هزيمة داخلية لنظام عبد الناصر وللآيديولوجية الناصرية ادّعى عبد الله إمام ما ادّعاه في خاتمة تلك الرواية. وللحديث بقية.