حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

فساد محمي بالقانون!

لا جدال في أن الفساد المالي وسياسات النهب، هما الوجه الآخر لغياب السيادة، واستتباع أي بلد وتعرضه لنوع من الاحتلال. هذا ما يبدو أنه واقع لبنان ومأساته. فالبلد الذي انتقل من مرحلة الاحتلال السوري المباشر، إلى مرحلة السيطرة الإيرانية، على أبرز مفاصل القرار بواسطة وكيل محلي، يتم حكمه بالإجمال من خلال طبقة سياسية لم تصل إلى السلطة إلا برضا المحتل الخارجي، فأطبقت بأزلامها على الإدارة العامة للبلد. قبل عام 2005، عام إخراج الجيش السوري، راجت كثير من النكات المبكية عن حسابات فلكية لكبار الضباط السوريين وأسرهم، وبعد عام 2005 برزت أكثر من أي وقت مشاركة حزب الله الطبقة السياسية تحاصص الدولة والسطو على المال العام، وتسبب استمرار استتباع البلد بعقوبات أميركية، كان أول الغيث إقفال البنك اللبناني الكندي لثبوت دوره في تبييض الأموال التفافاً على العقوبات على إيران. وكانت قرارات أميركية دولية حدّت من حرية القطاع المصرفي لتجفيف إمكانية تمويله نشاطات إرهابية.
لو استمعنا لأي مسؤول لقدم معطيات مذهلة عن مزاريب الهدر وخطوط التهريب، وعندما رفع المتظاهرون ضد الفساد صور بعض كبار المسؤولين واتهموهم بالفساد، علّق النائب وليد جنبلاط بالقول: وهل بقية الطبقة السياسية من الملائكة؟! في فذلكة الموازنة لعام 2007، وهي لم تعرض على النقاش، جاء بالنص أن «الفساد محمي بالقانون»، ولم يسجل مرة منذ ذلك التاريخ أنه جرت أي محاولة لتعديل قانونٍ يحمي الفاسدين والفساد، والسبب أن الطبقة السياسية محمية، وهي بمنأى عن أي محاسبة، وكلُّ ما يُفصّلُ يهدفُ لتأبيد السلطة إياها من خلال قوانين استنسخت المجلس النيابي، أو فرضت تمديداً قسرياً له دونما سبب أو مبرر حقيقي.
حتى عام 1992 أي بعد انتهاء الحرب الأهلية بأكثر من عامين لم يتجاوز حجم الدين أكثر من 3 مليارات دولار، لكن المديونية العامة قفزت في نهاية عام 2016 وفق أكثر الخبراء موضوعية إلى نحو 124 مليار دولار، فيما إجمالي الناتج القومي لا يتجاوز الـ50 مليار دولار، والأنكى أن هذا الدين ترتب على البلد من دون المرور بأي ورشة إعمار حقيقي، إذ لم يعرف لبنان أي حلٍ مقبول لمشكلات البنية التحتية من كهرباء وطرقات ونفايات ومياه... إلخ، وما من مسؤول يتكرم بإطلاع المواطنين متى يتوقف الاقتراض لتغذية المحاصصة المحمية بسطوة النافذين، ومتى سيبدأ لجم المديونية وبدء إيفاء الدين.
كارثة من القوانين الضرائبية أقرها المجلس النيابي، بما يشبه الإجماع، في تحايل مفضوح على قرار المجلس الدستوري الذي كان قد أسقط الضرائب في وقت سابق، وشهد المجلس النيابي أكبر دفاع صلب عن ضرائب تم فرضها من خارج الموازنة العامة، والحجة أن الضرورة تمليها للحيلولة دون انهيار الاقتصاد والبلد، وواضح للناس أنها ليست جزءاً من سياسة مالية عامة، وليس هناك أي رقم عن الواردات وحجمها، ولا وجود لأي رؤية مالية أو أفق، بل هي تكريس لنهج استعلائي، فُرضت خلافاً لكل النظريات الاقتصادية والمالية التي تحذر من مثل هذا المنحى حين تكون الأوضاع الاجتماعية مأزومة. ومعروف أن لبنان دون ميزانية منذ 12 سنة، ولم يعرف أي قطع حساب في خرقٍ واضح لأصول المحاسبة العمومية والقانون والدستور.
على الدوام خدمت السياسة الضرائبية حيتان المال والاقتصاد النيوليبرالي، لذا كان محورها الضرائب غير المباشرة، التي ترهق الفئات الوسطى التي يتراجع عددها، والفئات الأكثر فقراً وهي الأكثر عدداً. ومع تراجع التمويل السياسي ينقضُّ أهل الحكم على المال العام لتمويل ميليشياتهم والانتخابات العامة ما لم تؤجل في الدقيقة الأخيرة، وهذا يتمُّ دون الأخذ في الاعتبار أن تطبيق الضرائب الجديدة في أجواء الركود الاقتصادي المستمر منذ أكثر من 6 سنوات، سوف يعيق النشاط الاقتصادي بدل تحفيزه. أما سبب لجوء السلطة إلى المزيد من الضرائب غير المباشرة بذريعة تمويل سلسلة الرواتب الجديدة (هي مستحقة منذ زمن وتدرس منذ عام 2012) عِوض ضبط الهدر واستعادة بعض مزاريب الفساد المالي فواضح: لن يقبل أركان الطبقة السياسية، كما لم يقبلوا في الماضي، المس بـ«حقوقهم» الناتجة عن الفساد المستشري في كل أنحاء هذه الدولة من دون استثناء. لذلك يلجأون للضرائب غير المباشرة، في تجاهل صريح لفرض ضرائب حقيقية على الأرباح. ويستمر الهدر، ومعروف أن النفقات العامة في الموازنة وخارجها يغطيها قرار سياسي، تالياً لا فساد من دون تغطية وموافقة سياسية.
يرى اقتصاديون موثوقون أن استمرار السلطة على هذا النمط الذي يتضخم بصورة سرطانية ومن دون محاسبة سوف يؤدي، عاجلاً أم آجلاً، إلى انهيار مالي ونقدي يطال غالبية اللبنانيين في حياتهم ومستقبلهم، ومستقبل الأجيال، ولن يطال بالتأكيد أياً من المسؤولين الذين يتصرفون وكأن الأمر لا يعنيهم.
إن جلد الناس بالضرائب بدأ يتفاعل وليس أمراً هيناً، والإمعان في هذا المنحى من شأنه أن يفاقم التوترات الاجتماعية، والأكيد أن لبنان عشية مرحلة انسلاخ الكثيرين عن الاصطفاف الطائفي، وكل المؤشرات تشي بأن الغليان المدني والسياسي الموجود في الشارع أصبح ضرورة للناس دفاعاً عن النفس.