أثار الرئيس دونالد ترمب القليل من الشكوك بشأن آرائه حول الاتفاق النووي، أو خطة العمل الشاملة المشتركة، التي تفاوضت إدارة الرئيس السابق أوباما مع الإيرانيين بشأنها. وفي خطابه بتاريخ 19 سبتمبر (أيلول) الماضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وصف الرئيس الأميركي الاتفاق بأنه «مثير للحرج». وفي 15 أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، عليه أن يصادق مرة أخرى أمام الكونغرس على أن خطة العمل الشاملة المشتركة تصب في صالح الأمن القومي للولايات المتحدة. وعملية المصادقة مطلوبة ولازمة من قبل الكونغرس، وليس من قبل خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي وسط التساؤلات الموسعة بشأن الاتفاق، والمخاوف من احتيال الإيرانيين عليه، مرر الكونغرس في عام 2015 قانون «مراجعة الاتفاق النووي الإيراني»، الذي يقتضي الحصول على التصديق الرئاسي على الاتفاق النووي مرة كل 90 يوماً.
وحتى الآن، صادقت إدارة الرئيس ترمب على الاتفاق الإيراني مرتين متتاليتين. ولكن بعد المصادقة الأخيرة، قال الرئيس ترمب: «إذا كان الأمر متروكاً لي، لقضيت بعدم الامتثال الإيراني قبل 180 يوماً». وفي الحقيقة، فإن الأمر بالفعل متروك للرئيس. ومع النظر إلى تصريحاته الأخيرة، سيكون من المستغرب أن يعاود التصديق على الاتفاق في 15 أكتوبر.
وعدم التصديق، رغم ذلك، لا يعني بصفة تلقائية أن الولايات المتحدة سوف تنسحب من الاتفاق. وأقول ذلك لأن التصديق ليس جزءاً من التفاهمات التي تفاوضت بشأنها الولايات المتحدة والأعضاء الآخرون من مجموعة دول «5+1» (روسيا، والصين، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا) مع إيران. وبطبيعة الحال، إذا ما تخير الرئيس ترمب عدم التصديق هذه المرة، فمن شأن ذلك أن يخلق حالة من الضغوط داخل الكونغرس، لاتخاذ خطوات إعادة فرض العقوبات التي عُلقت كجزء من الاتفاق، وسوف يعني ذلك انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة.
ومن المهم أن نضع في اعتبارنا أنه إذا أعلن الرئيس ترمب عدم الامتثال الإيراني حيال الاتفاق، فسوف تواجه الإدارة الأميركية مشكلة عاجلة في المصداقية، فالهيئة الدولية للطاقة الذرية مسؤولة عن مراقبة الامتثال الإيراني لخطة العمل الشاملة المشتركة، ولقد أكدت الوكالة مرة أخرى أن الجمهورية الإسلامية تفي بالتزاماتها، بموجب بنود الاتفاق المبرم. وفي 20 سبتمبر الماضي، أقر وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون بـ«الامتثال الفني» الإيراني حيال الاتفاق.
ويشير إقرار تيلرسون إلى أن الإدارة الأميركية لن تتناول مسألة الامتثال الإيراني. وبدلاً من ذلك، سوف تركز جهودها على متطلبات قانون «مراجعة الاتفاق النووي الإيراني». ومن بين المعايير الحاسمة التي أقرها التشريع الأميركي أنه يتعين على الرئيس التصديق على أن إيران لا تقوم بأي إجراء من شأنه التعزيز بشكل كبير من برنامج الأسلحة النووية لديها. ومن المفترض أنه بسبب عدم المقدرة على الوصول إلى المواقع العسكرية الإيرانية، واستمرار الجمهورية الإسلامية في إجراء اختبارات الصواريخ الباليستية، سوف تدفع الإدارة الأميركية بعدم مقدرتها على التصديق على أن الجانب الإيراني لا يعزز بأي حال من الأحوال برنامجه الخاص للأسلحة النووية.
ومن غير المرجح أن يقبل الأعضاء الآخرون في مجموعة دول «5+1»، الذين هم جزء من الاتفاق، أياً من هذه النقاط المذكورة، بسبب أنه إذا كانت الولايات المتحدة تريد الوصول إلى المواقع النووية غير المعلن عنها في إيران، فيمكنها تقديم المعلومات التي تفيد بإثارة الشكوك حول ذلك الموقع، الأمر الذي يبرر حق الوصول إليه. والنقطة الثانية المتعلقة بإجراء التجارب الصاروخية، وغير ذلك من الإجراءات الإيرانية المزعزعة للاستقرار، فإنها ليست جزءاً من خطة العمل الشاملة المشتركة.
وبالتالي، إذا لم تصادق إدارة الرئيس ترمب على الاتفاق، ثم انسحبت منه بالكلية، فسوف تقوم بذلك بمفردها تماماً. وسوف تعزل بذلك نفسها، وليس الجانب الإيراني، وسوف يكون من الصعب للغاية التأثير على السلوكيات الإيرانية من خلال الوسائل غير العسكرية. وفي حقيقة الأمر، سوف يكون من العسير على الإدارة الأميركية حشد ردود الفعل الأوروبية أو الدولية ضد السلوكيات الإيرانية المثيرة للتهديدات، بما في ذلك استخدام الميليشيات الشيعية الموالية لها في منطقة الشرق الأوسط.
وهل يعني ذلك أنه يتعين على الولايات المتحدة عدم التصديق على الاتفاق؟ ليس بالضرورة، ولكنه يعني بكل تأكيد أنه إذا لم تصادق إدارة الرئيس ترمب، فسوف يجب عليها في الوقت نفسه تفسير عدم إعلانها الانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة، وعدم مطالبتها الكونغرس كذلك بإعادة فرض العقوبات على إيران، التي عُلقت كجزء من الاتفاق النووي المبرم. وبدلاً من ذلك، فإنها تبلغ الجميع (الحلفاء والإيرانيين على حد سواء) بأنه عند مرحلة من المراحل خلال الأشهر الـ6 إلى الـ12 المقبلة، سوف تنسحب الولايات المتحدة من الاتفاق، إذا لم يتم التعامل مع المخاوف الأميركية المتعلقة بالسلوكيات الإيرانية الإقليمية، وإجراء التجارب على الصواريخ الباليستية، وتجاهل بنود «غروب الشمس» في خطة العمل الشاملة المشتركة.
وفي حين أن جميع الأعضاء الآخرين في مجموعة دول «5+1» ملتزمون ببنود خطة العمل الشاملة المشتركة، فقد دعا الرئيس الفرنسي ماكرون أخيراً إلى صياغة «تفاهم تكميلي» بشأن الحفاظ على بعض القيود الرئيسية التي تقرها خطة العمل الشاملة المشتركة على عدد من أجهزة الطرد المركزي التي بحوزة إيران، وجودتها الحالية، ومستوى التخصيب المسموح به، وحظر قدرات إعادة المعالجة النووية باستخدامها؛ وهي البنود التي سوف تخرج من حيز التنفيذ الفعلي بحلول عام 2030. وإذا لم يكن هناك شيء آخر، فإن إعلان الرئيس ماكرون يوحي بأن الإدارة الأميركية تملك قدراً معتبراً من النفوذ.
ومن المؤكد أن القادة الأوروبيين لا يرغبون في انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة، ومن المتصور أيضاً أنهم سوف يسعون لإبقاء الولايات المتحدة ضمن الاتفاق المبرم، ولكن لا بد من تحقيق التوازن الدقيق. فشعبية الرئيس ترمب متدنية للغاية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا، ولن يكون من اليسير على رئيسة الوزراء البريطانية ماي، أو على الرئيس الفرنسي ماكرون، أو على وجه الخصوص المستشارة الألمانية ميركل، الذين يضطلعون الآن بأعباء تشكيل الحكومات الجديدة في بلادهم، أن يظهروا بمظهر المستجيب المؤيد للرئيس الأميركي بشأن هذه المسألة. وعلى الحد الأدنى، إذا ما أراد الرئيس ترمب انضمام اللاعبين الأوروبيين الرئيسيين إليه في ممارسة المزيد من الضغوط على الجانب الإيراني، الأمر الذي كان مفتاح الاستجابة الإيرانية للتفاوض بشأن برنامجها النووي في المقام الأول، فيجب عليه التخفيف من حدة تصريحاته التي يطلقها في العلن، وأن يوضح للجميع أنه لن ينسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة من دون العمل مع الشركاء الأوروبيين للتعامل مع مختلف المخاوف المتعلقة بالسلوكيات الإيرانية الإقليمية. وحال قيامنا بذلك، فسوف يضع المخاوف الأوروبية محل النظر والاعتبار خلال عملية المناقشات.
ولن يأخذ الجانب الإيراني موقف المتفرج الكسول في أثناء مسيرنا على هذا الطريق؛ فسوف يُظهرون أوثق علامات الالتزام ببنود الاتفاق، وأن الإدارة الأميركية هي التي تهددهم. وعلى هذا الأساس، فسوف يحاولون تقسيم مجموعة دول «5+1»، حتى يتسنى لهم تحييد أية خطوات جديدة تتخذ نحو ممارسة الضغوط على إيران، أو مطالبتها بتغيير سياساتها المتبعة. وكما فعل الرئيس روحاني، ونائبه صالحي، من قبل، فسوف يلعبون بورقة المخاوف من إعادة تجديد البرنامج النووي، إذا ما انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق. وفي الوقت نفسه، سيبعثون بإشارة مفادها أنه إذا كانت هناك أية «تفاهمات تكميلية»، فسوف تطالب إيران بتنازلات إضافية من جانب الولايات المتحدة، بما في ذلك - على سبيل المثال - إنهاء العقوبات الأميركية غير النووية المتعلقة بالإرهاب وحقوق الإنسان، التي لا تزال تؤثر بصورة سلبية عميقة على كثير من المؤسسات المالية متعددة الجنسيات التي تجري أعمالها داخل إيران. وبعبارة أخرى، سوف يدفع الجانب الإيراني بحجة أنه إذا كان الأميركيون يرغبون في المزيد من إيران، فعليهم منح إيران المزيد في المقابل.
إن توقع الخطوات الإيرانية من الأهمية بمكان للمقدرة على التصدي لها، ولإدراك أن الجانب الأوروبي لن يتسق بكل بساطة مع ما تسعى الإدارة الأميركية لـ«إصلاحه» داخل بنود خطة العمل الشاملة المشتركة، والتعديل من السلوكيات الإيرانية الأخرى. ولا بد للإدارة الأميركية أن تعترف بأنه إذا انسحبت من خطة العمل الشاملة المشتركة، من دون انضمام الجانب الأوروبي إلى صفوفها في ممارسة المزيد من الضغوط على إيران، فإن أثر الخطوات الأميركية المتخذة سوف يكون محدوداً للغاية. فقد كانت الرغبة الأوروبية بارزة في فرض المقاطعة على شراء النفط الإيراني، وليست العقوبات الأميركية أحادية الجانب هي التي أسفرت عن تدمير الاقتصاد الوطني الإيراني.
والمقصد هو أن التهديد الأميركي بالانسحاب من خطة العمل الشاملة المشتركة يخلق قدراً من الضغوط على الأوروبيين، الذين سوف يبحثون عن سبل للمحافظة على الاتفاق، ولكن يجب على الإدارة الأميركية أن تضع في اعتبارها كلاً من إمكانات وحدود نفوذها الحالي، إذا لم تصادق على الامتثال الإيراني هذه المرة، مما يعني وجود خطة معينة تقضي بتفسير ما تقوم به الإدارة الأميركية، وكيف ستعمل بهدوء مع الجانب الأوروبي للظهور بمظهر الجبهة الموحدة أمام الجانب الإيراني. وبعبارة أخرى، يجب على الإدارة الأميركية أن تتأكد أنها إذا لم تصادق على الاتفاق الإيراني، فإن لديها منهجاً تتخذه لعزل إيران، وليس عزل الولايات المتحدة.
* خاص بـ {الشرق الأوسط}