إميل أمين
كاتب مصري
TT

السعودية تنتصر للمرأة

تنهض الشعوب إذا امتلكت قيادتها الجرأة والجسارة على تحويل الأحلام إلى حقائق ووقائع تمشي على الأرض. ولما كانت المملكة العربية السعودية تمضي في طريق نهضة شاملة ترتسم آفاقها عبر خطوط طول وعرض «استراتيجية 2030»، لذا كان ولا بد من إعادة قراءة لكثير من المسلّمات المرتبطة بالتراث البشري، وليست المرتبطة بصحيح وصلب الدين.
في هذا السياق، جاء قرار خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز بمنح المرأة السعودية حق قيادة السيارة، انطلاقاً من رؤية شرعية تسمح للمرأة بذلك، وبخاصة مع توفر الضمانات الشرعية والنظامية اللازمة لتلافي الأخطاء وسد أبواب احتمالات الشكوك.
منذ فترة طويلة والحديث مطروح وبقوة على طاولة البحث والنقاش، وقد رأت قيادة المملكة أن الآن وقت مناسب مرغوب ومطلوب فيه التغيير الآمن، التغيير الناضج باستقرار، والساعي إلى الاستمرار، وبخاصة في ظل سيادة مجتمع شاب وحيوي ومنفتح على الذات وعلى الآخرين.
الخطوة ولا شك تصب فيما هو أبعد بكثير من مجرد قرار ملكي.. إنها تعكس إرادة سياسية قادرة، حازمة وحاسمة، لا تنطق عن الأهواء، بل تنطلق تفاعلاتها من قلب الحاجة إلى أفعال التقدم التي تضمن للأجيال القادمة نمواً وازدهاراً حقيقياً، بعيداً عن ضيق الرؤى وتزمت الأهواء.
قرار الملك سلمان يستدعي من باطن التاريخ لمحة عابرة عن المرأة في صدر الإسلام، وكيف كانت شريكاً أساسياً للرجل في تحمل المسؤوليات، وتصريف شؤون ورعاية مصالح الأسرة، وفي الحديث: «النساء شقائق الرجال»، بل إن النص القرآني يعتبر المرأة آية من آيات الخلق: «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» (سورة الروم: 21).
يحتاج التغيير البنّاء والخلاق إلى رؤية استشرافية، وإلى تصالح وتسامح مجتمعي، وكلاهما يلزمهما حالة من حالات مساءلة الأيقونات التراثية، وغربلتها للخروج بما هو حتمي وضروري لإحداث عملية الموازنة التي لا بد منها بين الأصالة والمعاصرة، بين القديم والحديث، بين الخلَف ومستقبله، والسلَف وما كان من شأن ماضيه.
يمكن القطع بأن رؤية المملكة للعقود القادمة لا يمكن أن تستقيم حال تقليص الحيز الإيجابي الذي يجب أن تحتله المرأة السعودية، تلك التي جادت قريحتها وتميزت في كافة ميادين الحياة، وأبدعت في كثير من مجالات العلوم التطبيقية والتجريدية على حد سواء، ولهذا فإن القرار فعلاً وقولاً يأتي ليعزز من قيمتها في ذاتها، وليرسخ لدورها القائم والقادم، وليمكنها لتكون قيمة مضافة، ما يعزز مسيرة الانفتاح الحضاري، بعيداً عن «التغريب» المغرق في التماهي مع مجتمعات مختلفة بنيوياً، أو «الاستشراق» ضمن أطر ورؤى فلسفية، بدورها لا تتسق وتراث العرب وفلسفة الإسلام.
أفضل وصف يمكن لصاحب قلم أن يطلقه على قرار الملك سلمان الأخير، هو أنه قرار صادر عن لحظة «وعي تاريخي»، والوعي هنا لا يعني وعياً بالذات وحسب من حيث البعد الزماني، بل هو وعي بمن نحن أيضاً بالنسبة للآخرين في الزمان والمكان، وهنا فإن قرار الملك سلمان يعي أن لحظة الانطلاقة الحقيقية التي تعي التاريخ أمر له إحداثيان؛ محلي وعالمي، في إطار عالم تتغير فيه بوصلة الاتجاهات، بشكل تصعب ملاحقته يومياً.
هل القرار يسعى لمحاكاة الآخر شرقاً أو غرباً؟
بالمطلق، يمكن القطع بأن قرارات المملكة الأخيرة وتوجهاتها لبلوغ «استراتيجية 2030» ضرب من ضروب القضايا المصيرية التي تطرح من الذات لا من الآخرين، حتى وإن لقيت استحساناً كبيراً، ووجدت تجاوباً واضحاً، وترحيباً عميقاً من كافة الدوائر السياسية والإنسانية حول العالم.
من عينة التفاعل العالمي الإيجابي مع قرار الملك سلمان الساعات القليلة الماضية، ردود الفعل الأميركية، فقد أشاد الرئيس ترمب بهذا الإجراء، معتبراً إياه خطوة إيجابية نحو تعزيز حقوق النساء والفرص المتاحة أمامهن في المملكة، فيما ذهبت ابنته النافذة في البيت الأبيض إيفانكا إلى وصف الأمس بأنه «يوم تاريخي» للنساء في السعودية، واصفة خطوة رفع المنع عن قيادة المرأة للسيارة بأنها خطوة في الاتجاه الصحيح.
ولعل المتابع لردود الفعل حول العالم لخطوة الملك سلمان هذه، يدرك المدى الطيب الذي ساهم ويساهم به في تغيير الصورة النمطية عن العرب والمسلمين التي لطالما تلاعب بها الكارهون والحاقدون، عبر الواقع الفعلي ومن خلال الشاشات الفضية بنوع خاص، ذلك أنه قرار عقلاني يجعل مكانة المرأة في المملكة نداً لنظيراتها في بقية أرجاء العالم، وهي خطوة، ولا شك، سوف تتبعها خطوات تعيد لصورة العربي مكانته وكرامته التي كانت عبر تاريخ طويل من الحضارة العربية.
هدية سلمان ملك الحزم للمرأة السعودية، تأتي على هامش احتفالات المملكة بذكرى اليوم السابع والثمانين لتأسيسها، وتتساوق مع رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لمجتمع بعيد عن التشدد الذي يعطل مشروعات التنمية، سيما أن المرأة جزء أساسي ورئيسي من رؤية الأمير محمد الساعية إلى رفع نسبة مشاركتها في سوق العمل، بما يتناسب مع وجودها الحقيقي في مجتمعها.
«مبروك للمرأة السعودية» وإلى الأمام.