محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

فقدنا الذاكرة

من كثرة ما كتبت في هذه الزاوية عن مخاطر الإنترنت والأثمان الباهظة التي ندفعها اليوم، وغالباً من دون حسبان، مقابل احتضان التطور الشامل لكل ما توفره لنا التكنولوجيا اليوم خصوصاً وسائل التواصل الاجتماعي وعالم الإنترنت الزاخر، بات من المعتاد أن ينظر البعض إليَّ كنظرتهم إلى رجل تجمدت قدماه في العصر الماضي ورافض للتطوّر بأسره.
لا ينفع أنني أشير إلى حسنات مؤكدة في هذا التطوّر، ولا ينفع أنني أفصل التكنولوجيا العصرية (ولها إيجابياتها لكن ككل شيء آخر لها سلبياتها أيضاً) عن «الإنترنت» كوسيط متعدد الأغراض والمنافع والأضرار. التهمة صارت جاهزة كما بادرني بها صديق لم أره منذ سنوات فقال: «أهلاً بعدو العصرنة رقم واحد»! تبع ذلك بضحكة بدت غريبة وبتمثيل لم يكن عفوياً (لا يستحق عليه دخول سباق الأوسكار على أي حال) وإن أريد له أن يبدو مازحاً. كِلتُ له من الطبق ذاته لكني لم أدخل في نقاش معه بل وصلت إلى النتيجة التي أريد وفزت من حيث لم أتوقع.
سألته: «كم عمرك الآن؟ 45 سنة؟».
أجاب: «لا. أكثر بقليل. أتممت 48 سنة في الشهر الماضي؟».
قلت له: «عظيم. هل تستطيع أن تتذكر رقم هاتف زوجتك أو ابنك زياد؟».
بدا متردداً ثم قال: «لا أحتاج إلى ذلك فهي مسجّلة عندي».
قلت: «أعرف، لكن هل تتذكر رقميهما غيباً؟».
رد قائلاً: «لا. لماذا تسأل؟».
قلت: «لكن قبل أن تستخدم الهاتف الجوال، كنت تعرف رقم هاتف البيت ورقم العمل ورقم هاتف والديك ورقمي أو أرقام بعض معارفك أو ربما البقال في أسفل العمارة... أليس كذلك؟».
أدرك إلى أين أتجه بحديثي وهز رأسه إيجاباً. قلت له إن هذا ليس سوى قدر محدود مما بتنا نخسره لأننا أحلنا مداركنا إلى الأجهزة التي تبنيناها بكل استعداد وحماس. وختمتُ: «أضف إلى ذلك كل التقاليد العائلية والاجتماعية التي ضاعت في ركب هذا التطوّر. متى زرت والديك؟ أو اتصلت بشقيقك فؤاد؟ متى جلست وأهلك في المنزل في غرفة واحدة من دون حواسب أو هواتف مع أحدكم على الأقل؟».
المسألة تتعدى مسألة العادات والتقاليد والألفة وتذكر أرقام هواتف الأقربين إلى مسألة الخسارة الجمعية للذاكرة. فكوننا بتنا الآن نخزن في الكومبيوتر كل شيء نراه أو نسمعه أو نشعر به أو نقرأه، بات من العادي حدوث تباعد بيننا وبين أهم محطاتنا الشخصية. نعم تستطيع أن تلتقط صورة لك ولمن تحب، وتحتفظ بها على الكومبيوتر أو في الهاتف، لكنك ستنسى كل شيء حولها بعد حين لأنك فصلتها عن بالك ولم تسع لتجسيدها كقيمة فعلية. ليست مطبوعة وليست مؤطرة ومعلقة على جدار غرفة النوم.
باتت جزءاً من ذاكرة خرجت من دماغك ودخلت دماغاً آخر غير بشري. باتت تنتمي إليه أكثر مما تنتمي إليك.
الذاكرة هي نتيجة طبيعية لانصراف العقل والعاطفة صوب قيمة اللحظة الواحدة ومعايشتها. هذا يدفع بنا إلى الملاحظة والملاحظة إلى الذاكرة. تسجيلها خارج الدماغ لا يلغيها فقط، بل يلغي ما سبقها وما تلاها من لحظات. يحولها إلى ديجيتال مخزن تراه ثم تنساه عوض أن تسكنك أنت. الاختيار لك.