سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

موعدنا معها ليس في حارة... إنه في ميدان!

على كثرة ما قرأت رداً على منظمة «هيومن رايتس ووتش»، حول تقريرها السنوي الأخير، لم أقرأ لأحد، خصوصاً في مصر، يرد على تقريرها بما يجب فعلاً أن نرد به عليه!
لقد اعتادت المنظمة على أن تُقيم الدنيا بتقريرها، في مثل هذا الموعد من كل عام، فلا تُقعدها لأسابيع، وأعتقد أنها نجحت إلى حد كبير، في أن تضع الغالبية من الدول التي يشملها تقريرها في العادة، في موقع الدفاع الذي يدرأ فيه صاحبه عن نفسه تهمة، أكثر منه موقعاً للهجوم يبادر صاحبه ويبادئ، فلا ينتظر حتى يأتيه خصمه إلى باب بيته!
ومن مجرد اسم المنظمة، تفهم أنها مهتمة بحقوق الإنسان، كقضية في أرجاء العالم، وقد بدا واضحاً في السنوات القليلة الأخيرة، أنها تجاوزت مرحلة كانت فيها مهتمة بهذه الحقوق، من حيث المبدأ، إلى مرحلة متقدمة بخطوة صارت فيها مهمومة بالحقوق نفسها! والفارق بالطبع واسع، بين أن تكون المنظمة مهتمة بموضوع حقوق الإنسان، وبين أن تكون به مهمومة!
ولا أحد بطبيعة الحال سوف يكون عنده اعتراض، على أن يكون هذا الموضوع تحديداً، هو محل اهتمام المنظمة المشهورة، وموضع همها، لا أحد، وهل هناك بيننا مَنْ سوف لا يقف مع حقوق الإنسان في مجملها، أو يتخاذل في مقام الدفاع عنها بكل ما يستطيعه؟!
لا أحد مرة أخرى!
ولكن المشكلة كانت دائماً في حدود فهمها لحقوق الإنسان، التي تنشغل بها على مدار العام كله، وتنتفض كلما لاحظت أن حقوق أي إنسان قد تعرضت لنوع من التجاوز هنا، أو درجة من الاعتداء هناك!
حقوق الإنسان عندها، لا تتجاوز حقين على وجه التحديد: حقه في التعبير عن وجهة نظره، دون تقييد، وحقه في أن يحصل على حريته كاملة، دون قيد!
ولا خلاف على ذلك طبعاً، فمن حق كل إنسان أن ينعم بهما معاً، ولكنك عندما تتأمل الصورة كلها، صورة حقوق الإنسان، من حيث هو إنسان في العالم كله، تكتشف أنها أشمل بكثير، من حكاية الحق في التعبير، والحق في الحرية! وتكتشف شيئاً آخر على الدرجة نفسها من الأهمية، هو أن المنظمة حتى مع هذين الحقين، لا تمارس دورها دفاعاً عنهما في أي أرض، لوجه الله، ولكنها تُسيسهما دائماً!
إنها تُغمض عينيها عنهما في هذه الدولة، وتفتحهما عليهما في تلك الدولة، لأسباب لها علاقة مباشرة بالسياسة في غالب الأحوال، وليس الأمر في هذه النقطة في حاجة إلى أي بيان؛ لأنه بالنسبة للذين يتابعون التقارير عاماً تلو آخر، أوضح من أن يشوبه أي غموض!
المشكلة الأكبر تبقى في أن «هيومن رايتس ووتش»، لا تريد أن تُقر بأن حقوق الإنسان أوسع في دائرتها، وأكثر امتداداً أفقياً وطولياً، وفي كل اتجاه!
وهي أوسع، وأكثر امتداداً؛ لأن علينا أن نفكر دائماً فيما إذا كان هذا الإنسان الذي تؤرق حقوقه هذه المنظمة، قادراً على أن ينعم بحريته في الحركة، وفي التعبير، إذا ما كان في الأصل إنساناً أمياً بالمعنى الأبجدي للأمية، وإذا ما كان إنساناً معتل الجسد لا يقوى به على قطع خطوة واحدة، وإذا ما كان إنساناً يسكن الشوارع والميادين، فلا يجد جدراناً أربعة تستره؟!
هل هو إنسان بالمعنى الحقيقي للكلمة، إذا ما افتقد هذا كله، ولم يعرفه في حياته؟!
إنني أتكلم عن الحق في التعليم العصري، لا أي تعليم، وأتكلم عن الحق في العلاج الذي يليق به، كإنسان، وأتكلم عن الحق في السكن، ويمكنك أن تضيف إلى الثلاثة، حقه في أن يعمل، فلا يسأل الناس إحساناً على النواصي وفي الطرقات!
أتكلم عن هذه الحقوق المنسية لدى المنظمة، دون أن أقلل بوصة واحدة من شأن الحقين الشهيرين اللذين لا همّ للتقرير في كل دوراته، وكل طبعاته، سواهما!
ولقد راهنتُ طويلاً على أن تتدارك تقاريرها المتوالية هذا النقص غير الجائز، في زاوية النظر إلى حقوق الإنسان، ولكني كنت أخسر الرهان في كل مرة، وكنت أراها تغض بصرها باستمرار عن حقوق لا معنى لحياة الإنسان من دونها، ثم كنت أراها تزداد إلحاحاً على حقوق الإنسان، وفق مفهومها الخاص هي، وهو مفهوم لا يمكن أن يصمد أمام أي نقاش جاد عما يلزم الإنسان ليكون إنساناً!
إن أحدث الإحصاءات عن الأمية الأبجدية تقول، إن الذين يعانون منها في غالبية الدول العربية، هُم بالملايين، وليسوا بالآلاف، ولا حتى بعشرات الآلاف، أو مئاتها، ومع ذلك فلم يحدث أن جاء لهؤلاء ذكر في أي تقرير سنوي من التقارير التي تُوالي الصدور سنة تلو سنة، وكأن هذا الإنسان الأمي الذي يجهل القراءة والكتابة، لا حق له في شيء ينير عقله، في عصر تجاوز بطبيعته الأمية من هذه الدرجة، إلى أمية الموبايل الذكي الذي يستطيع أن يميز وجه صاحبه في الظلام!
تأخذنا المنظمة مع كل تقرير جديد لها، إلى حارة من الحارات، وننسى على الدوام أن علينا أن نأخذها بعيداً عن حارتها إلى الميدان!