رضوان السيد
كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية
TT

تصدع الشرعية اللبنانية وسيطرة الحزب على لبنان!

ما كانت السلطة الشرعية في لبنان في أحسن أحوالها، وهي بعد ظهور سيطرة «حزب الله» على قرار السلطة السياسية، وعلى قرار الجيش الوطني في حالة تصدعٍ واندثار.
بدأت القصة عام 2013 بتدخل «حزب الله» العسكري في سوريا بحجة حماية مزارات آل البيت هناك، والحيلولة دون دخول الإرهابيين التكفيريين إلى لبنان. إنما الذي حصل العكس تماماً، فقد تسبب الحزب وقصف النظام السوري بالطيران والمدفعية في تهجير سكان القلمون الشرقي والغربي، وتدفّق عشرات الأُلوف من اللاجئين والمسلَّحين إلى المناطق الحدودية اللبنانية وبلداتها. ولأنّ القرى والبلدات المجاورة للحدود السورية هي في معظمها شيعية السكّان وفيها مراكز لـ«حزب الله»؛ باستثناء بلدة عرسال، فقد جاء المدنيون المهجَّرون ومعهم المسلحون إلى عرسال السنية وجرودها العالية، وإلى الجرود المجاورة في القاع ورأس بعلبك ذات الكثرة السكانية المسيحية على سفوحها. وحدثت واقعة بل واقعات متفرقة بين الجيش اللبناني والمسلَّحين الآتين من سوريا أشهرها واقعة الثاني من أغسطس (آب) عام 2014. التي أُسر بنتيجتها العشرات من جنود الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. وبدأ التفاوض مع المسلَّحين لإطلاق سراح العسكريين بمبادراتٍ من المنظمات الإنسانية وبعض رجال الدين المسلمين، وأمكن بنتيجتها إطلاق سراح ثمانية منهم. لكنّ «حزب الله» الذي كانت كتائبه تروح وتغدو إلى سوريا أطلق النار على المفاوضين فقتل بعضهم، وجرح البعض الآخر. وكانت حجته أنه لا يجوز التفاوضُ مع الإرهابيين، وأنه إذا كان الجيش جادّاً في مكافحة الإرهاب، فإنّ عليه اقتحام عرسال نفسها وليس جرودها وحسب لإخراج المسلحين وقتلهم. وما فعل الجيش ذلك، لأنّ عرسال ذات الثلاثين ألف ساكن، دخلت إليها أعداد من اللاجئين تجاوزوا الأربعين ألفاً، انتشروا في أحيائها، وأقاموا أو أقامت لهم المنظمات الإنسانية مخيمات عشوائية لتتمكن من تقديم المساعدات لهم. وسرى هذا الإرغام للجيش والقوى الأمنية على جرود القاع ورأس بعلبك رغم أنه كان يمكن قتالهم وإخراجهم من الأرض اللبنانية هناك. كان الحزب يقول: إما أن تقاتلوا السوريين في عرسال، وإما لا قتال على الإطلاق. وكانت دعاية الحزب أنه هو الحامي للمسيحيين الموجودين بالمنطقة وليس الجيش الذي زادت أعداده وقواته إلى ثلاثة ألوية بقيت ساكنة وهي تراقب مسلَّحي الجرود الذين يحفرون الخنادق والأنفاق طوال ثلاث سنوات فوقها أو في مقابلها. وكان الحزب يقدّر أعداد المسلحين الذين ينتسبون إلى جبهة النصرة بالألفين، وإلى «داعش» في الجرود المقابلة بالألفين أيضاً. لكن عندما «رأى» الحزب قبل ثلاثة أشهر بعد أن اعتبر أنه انتصر في سوريا، مقاتلة النصرة في جرود عرسال تبين أنّ أعدادهم تبلغ مائة وعشرين في حين بلغت أعداد المسمين داعشيين ثلاثمائة وأربعين (!). وعلى أي حال أقبل نصر الله فجأة على تهديد الجيش واللبنانيين: إما أن تقاتلوا «النصرة» و«داعش» وإما أن نقاتلهم نحن وأنتم. وقرر الجيش ومن ورائه السلطة السياسية أن لا يشارك نصر الله في قتال «النصرة»، وأن يتفرغ وحده لقتال «داعش». أما قتال الحزب لـ«النصرة» فما دام غير ثلاثة أيام، ثم تصالح معهم وأخذ منهم أسراه وجثث مقاتليه، وجرى الاتفاق بواسطة مدير الأمن العام اللبناني وهو شيعي يأمنه الحزب والنظام السوري - على مواكبتهم بسلاحهم، ومعهم آلاف العائلات المهجَّرة إلى البوكمال. ويقال: إن زعيم هؤلاء أبو مالك التلي كان معه في انسحابه ثلاثون مليون دولار دفعتها قطر كالعادة لأسباب إنسانية بالطبع، ولا ندري ما هي المبالغ التي أخذها الحزب والنظام السوري كما في مراتٍ سابقة في لبنان وسوريا والعراق، وللأسباب الإنسانية ذاتها بالطبع أيضاً! أما السلطة اللبنانية فخنعت للاتفاق النصراوي مع الإرهاب وأطلقت سراح ثلاثة من «النصرة» من سجونها إنفاذاً لأمر نصر الله، كانت قد صدرت بحقهم أحكام قضائية!
وما انتهت القصة عند هذا الحد بل بدأت. فالجيش يعتمد على المساعدات الأميركية سلاحاً واستشارة لوجيستية. وما رضي الأميركيون بمشاركة «حزب الله» في انتصاراته. ولذلك اجتمع مجلس الدفاع الأعلى برئاسة رئيس الجمهورية وحضور رئيس الحكومة والوزراء المختصين وقائد الجيش وقادة الأجهزة الأمنية الأُخرى، وأعلن أمين المجلس في الخاتمة أنّ لبنان جزءٌ من التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب، وأنه سيخوض بمفرده معركة تحرير الجرود وإخراج «داعش» ومن دون تنسيقٍ مع الحزب أو النظام السوري. وهلَّل اللبنانيون للجيش الوطني، وقال أنصار الجيش إنه قرارٌ سيادي ما جرى اتخاذ مثله منذ الاستقلال! وأنا أرى أنّ الجيش تصرف آخر مرة بقرارٍ من السلطة السياسية عام 2007 في القتال ضد تنظيم «فتح الإسلام» الذي أرسله السوريون واستولى على مخيم نهر البارد. أما بعد احتلال بيروت من جانب الحزب عام 2008 فما خاض الجيش اشتباكاً بالداخل إلاّ بأمر الحزب أو مشاركته. المهمُّ أنّ الجيش قال في بياناتٍ متتالية إنه قتل العشرات من «داعش»، وإنه حرر ثمانين في المائة من جرود رأس بعلبك، وما بقي «داعش» إلاّ في ثلاثين كيلومتراً يستطيع الجيش تحريرها من المسلحين والوصول إلى الحدود الدولية مع سوريا خلال أسبوعٍ لا أكثر. وما خسر الجيش في المعركة غير سبعة جنود بفضل المعدات الهائلة والحديثة التي زوده بها الأميركيون. ويقال إنه كان معه مستشارون أميركيون بلغ عددهم السبعين!
وما سكت نصر الله أكثر من أسبوع، ليعود فيخطب متوعداً الحكومة والجيش: لا استمرار للقتال ضد «داعش» إلاّ بالتنسيق مع الحزب والنظام السوري! ورفض الجيش ذلك علناً، إنما بعد ثلاثة أيام أعلن عن وقفٍ لإطلاق النار مع «داعش» من طرفٍ واحد، بحجة البحث عن العسكريين التسعة الذين لا يزالون محتجزين عند «داعش» منذ العام 2015. وقد كان الجميع يعلمون ومنذ العام 2015 أنّ العسكريين قتلهم «داعش»، وأنّ أماكن دفنهم شبه معروفة. وما مضت ساعات حتى تبين أن الحزب أنجز اتفاقاً مع «داعش»، استردّ بمقتضاه جثامين لميليشياته، وبعض الأسرى الذين كان بينهم ضابط إيراني كبير. وكالعادة خبأت الدولة اللبنانية رأسها في الرمال، وأرسلت مدير الأمن العام ليشارك النظام السوري والحزب في التفاوض مع «داعش». وظهرت الجثامين الثمانية للعسكريين المقتولين، أما التاسع فقيل إنه انضمّ إلى «داعش»، وربما قُتل في معارك لاحقة للتنظيم! واندلعت فضيحة جديدة بشأن خضوع الحكومة والجيش لقرار الحزب، وثار ضباطٌ متقاعدون استنكاراً لهذا الإذلال للجيش الوطني، لكن لا حياة لمن تُنادي.
إنّ هذه القصة الطويلة والمأساوية تعني المزيد من التصدع في الشرعية اللبنانية بالداخل وأمام المجتمع الدولي. فقبل أسبوع اتهمت المندوبة الأميركية لدى الأمم المتحدة أمام مجلس الأمن قائد القوات الدولية بالتنسيق مع «حزب الله» في جنوب لبنان. وبالطبع سيفكر الأميركيون عشر مراتٍ بعد الآن قبل أن يزوّدوا الجيش اللبناني بالسلاح واللوجيستيات والاستشارات.
إنّ الذي ينبغي فعله لتجاوُز الطبقة السياسية الخاضعة تشكيل جبهة سياسية معارضة من كل القوى التي لم تُجر تسوية مع الحزب، تعاضدها الجهات المدنية والشبابية، أو يصبح لبنان مثل سوريا والعراق، بعد أن يئس منه الأميركيون والاتحاد الأوروبي والعرب؛ بل ويئس منه لبنانيون كثيرون ما كانوا مُعادين للحزب من قبل. ولله الأمر من قبلُ ومن بعدُ.