سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

من أجل المتوسط!

تبدو حوادث الطعن والدهس الثلاث الأخيرة، وكأنها من حيث الشكل ترسم مثلثاً، يرتكن بأحد أضلاعه على البحر الأبيض المتوسط!
لقد ضربت الأولى في مدينة برشلونة الإسبانية، وكانت الثانية في مدينة سورجوت الروسية، وجاءت الثالثة في توركو الفنلندية، وحين تتطلع إلى موقع إسبانيا، وروسيا، وفنلندا، على الخريطة، ثم تمد بينها خطاً رابطاً، يتشكل أمامك ما يشبه المثلث الكبير الذي يلامس رأسه أرض فنلندا في شمال أوروبا!
وعندما يقال في الحوادث الثلاث، أو في بعضها على الأقل، إن الجاني فيها إما أنه عربي، وإما أنه من أصل عربي، فهذا معناه أنه جاء من جنوب البحر المتوسط، ليلحق الأذى بخلق الله الذين يعيشون شماله، دون ذنب، ويُصبح الانطباع الذي يترسب في أذهان الناس في الشمال، أن جنوب البحر ضد شماله، وأن الذين يقيمون في دول الشاطئ الجنوبي، لا يريدون خيراً لأهل الشاطئ الآخر، ويتحينون الفرصة لإلحاق الضرر بهم عند أول فرصة تُتاح، وهو بالضبط ما فعله الشاب موسى أوكبير، المشتبه به في حادث برشلونة!
وإذا كان هناك في شمال البحر، مَنْ يؤمن بذلك، فلا بد من لفت نظره بسرعة، إلى أنه يقع في خطأ التعميم، الذي يأخذ بريئاً لا ذنب له في شيء، بما لم يفعل، وبما لم يفكر فيه!
أحسست بفداحة الوقوع في خطأ التعميم، في اللحظة التي قرأت فيها أن دعوات عنصرية قد اجتاحت مدينة برشلونة، ومن ورائها إقليم كتالونيا كله، الذي تنتمي إليه المدينة، وأن الدعوات كلها كانت تصب في اتجاه التحريض على العنف ضد المغاربة، صراحة، لا لشيء إلا لأن الشاب المشتبه به من أصل مغربي!
وقد وصلت الدعوات العنصرية هناك، إلى حد أن نشطاء عنصريين سارعوا إلى طلاء القنصلية المغربية في مدينة طراغونا، إحدى مدن الإقليم، باللون الأحمر!
إن كل واحد منا نحن العرب، في المغرب، أو في أي دولة عربية، لا بد طبعاً أن يتفهم مشاعر اللحظة التي تضغط على أبناء الإقليم الإسباني، أمام مشهد القتلى والجرحى الذين سقطوا في الحادث، غير أننا في الوقت نفسه، لا بد أيضاً أن نظل ننبه إلى خطر الانسياق وراء هذه المشاعر، إلى حد السقوط في خطأ التعميم، بكل ما يجُرنا إليه هذا الخطأ من خطر!
لقد حزنت جداً، لمقتل موسى أوكبير في موقع المأساة، ليس عن تعاطف مع ما ارتكبه بالطبع، استغفر الله، فلا يمكن لعاقل أن يتعاطف، ولو للحظة، مع عنف، ولا مع تحريض على عنف، ولكن حزني لأني كنت أريده حياً، لعلنا نعرف منه ماذا تحديداً دفعه إلى ارتكاب جريمته، ولماذا؟!
أعرف أن الشرطة الإسبانية لا تزال تصفه بأنه مشتبه به، بما يعني من الناحية القانونية أن ارتكابه للجريمة لم يصبح بعد مسألة مؤكدة، ومع ذلك فلقد كنت أتمنى بقاءه حياً، كما أتمنى بقاء أي متهم غيره، في أي جريمة مماثلة، حياً كذلك؛ لأن الشيء الأساسي الذي لا نزال نفتقده في حوادث إرهاب الطعن، والدهس، التي تضرب أنحاء متفرقة من العالم، هو فهم حقيقة أبعادها، ودوافعها، من فاعليها أنفسهم، أو من متهميها على الأقل، وليس من آخرين يروون عنهم!
إن أول خطوة نحو مواجهة هذا الوباء الذي يضرب في أماكن مختلفة، خبط عشواء، هو فهم حقيقة الدوافع وراءه، إذ المفهوم أننا من دون الوقوف على هذه الدوافع، بوضوح، سوف نظل نخمن، ونتوقع، ونضع الاحتمالات، وكلها كما ترى لا تتعامل مع الموضوع من عند الجذور!
لقد مات موسى أوكبير في موقع الحادث، فأغلق هو الملف بيده، ولو عاش لكان قد أرشدنا على كثير مما سوف يغيب عنا فيه!
زمان، نشأ كيان إقليمي دولي كان اسمه «الاتحاد من أجل المتوسط»، وكان الهدف من وراء الإنشاء واضحاً في الاسم بما يكفي، فالبحر المتوسط، هذا المسطح البحري شديد الاتساع، هو الهدف، ومصلحة أبنائه هي الغرض، وقد كان الهدف ومعه الغرض يستحقان الإبقاء على الكيان، ويستأهلان ضخ مزيد من دفقات الحياة فيه، لولا أنه مات، فيما يظهر، أو شبه مات!
كانت نشأته قبل ما يُعرف بالربيع العربي بسنوات معدودة على أصابع اليد الواحدة، وكانت فكرته تعود إلى فرنسا، وتحديداً إلى رئيسها الأسبق ساركوزي، وكانت الرئاسة فيه بعد قيامه مشتركة بين القاهرة وبين باريس، وكانت الفكرة أن يضم في عضويته، كافة الدول المطلة على البحر، جنوبه وشماله، وقد صارت كلها أعضاء فعلاً، باستثناء ليبيا التي رفضت لأسباب رآها العقيد القذافي وقتها!
وفي مرحلة لاحقة رأت دول في أوروبا، لا تطل على المتوسط، وفي مقدمتها ألمانيا، أن العضوية يجب أن تتسع دائرتها لتشمل دول الاتحاد الأوروبي كلها، ووجد الاقتراح الألماني استجابة، وتمتعت برلين وباقي عواصم الاتحاد التي لا منفذ لها على البحر، بعضويته الكاملة!
لقد قيل الكثير وقت إنشائه، عن دوافع غير معلنة وراءه، من أول ما قيل عن أن الدافع هو وضع إسرائيل في جملة مفيدة، مع الدول العربية التي تطل على البحر، وهذا بالمناسبة ما جعل القذافي يرفض عضويته، إلى آخر ما قيل عن أن دول الشمال تريد طاقة الشمس المتوفرة لدى دول الجنوب. قيل هذا، وقيل غيره، بصرف النظر عن مدى الخطأ فيه أو الصواب، ولكن المؤكد أن بقاءه بقوة الدفع الأولى، كان في حد ذاته ضمانة كبيرة للجنوب والشمال بالقدر نفسه، في خوض معركة واحدة مع الإرهاب بكل أنواعه!
الأسباب التي فرضت الاتحاد من أجل المتوسط في بدايته، طرأت عليها أسباب أخرى تفرض أن يبقى وأن يقوى، حتى لا يكون كل جنوبي متهماً بالإرهاب إلى أن يثبت في حقه العكس، وحتى لا يكون كل شمالي عنصرياً إلى أن يثبت أنه بريء!