سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

أعمدة المستر «بيل»

لعل أهم متغير في حياة الإنسان المعاصر أنه لم يعد يدهش لشيء. ونقرأ اليوم عن الإنسان الآلي وكأننا نقرأ حكاية ليلى والذئب. كانت ألعاب الأطفال سيارة من خشب، وأصبحت سيارة الكبار بلا سائق. تصعد إليها وتعطيها البرنامج وتضع رجلاً فوق رجل. الباقي، من تجنب الحفر والتوقف عند الضوء الأحمر، والتوقف السريع لكي لا تصدم رجلاً أهوج في الطريق، كل ذلك اتركه لها. أو لبيل غيتس. كنتَ تحلم وأنت في عمر الأحلام، بهاتف «مصور» ترى من خلاله على الطرف الآخر، من تحب. انسَ. لقد أصبح «سكايب» اختراعاً قديماً الآن، ابتدعه رجل من لاتفيا، التي لم تسمع بها حتى الآن، وبالكاد تعرف أنها من جمهوريات البلطيق.
كلمة سرعة لم تعد تكفي لوصف وتيرة العصر. كانت لا تزال مناسبة أواخر القرن التاسع عشر عندما اخترع المستر بيل الهاتف. لكن الأعمدة التي رفعت عليها الأسلاك شوهت المناظر، فراح الناس الغاضبون يقطعونها. وظن البعض الآخر أن المستر بيل «مسكون» ويتعاطى مع العفاريت. وعندما عرض الفكرة على الممولين، ظنوا أنه يهذي. غير أن توماس إديسون، عبقري الاختراعات، قال إن صديقه بيل غيّر فكرة الزمان والمكان بين البشر. وإلى الأبد. ولم يعد ورثة المستر بيل في حاجة إلى أعمدة تقف عليها الطيور وتغرد، وأسلاك تحمل الحوارات والآهات، فالآلة التي طورها ستيف جوبس تقوم بمئات المهمات، وهي في جيب سترتك.
الناس لم تعد تنتظر وصول الجيل الجديد من الآيفون كآلة لا حدود لاستخداماتها، وإنما كلعبة مذهلة حولت السلوى إلى أهم صناعة في العصر. والتطلع الآن إلى «الآيفون» كهاتف، مثل النظر إلى أعمدة بيل، كشرفة عالية لطيور القبرات.
والقبرة عصفور جميل صغير يمر بلبنان مع الربيع، ويتولى اللبنانيون قتله، ويستعجلون قبل «انتهاء الموسم». ولا تدعوا الفرصة تفوتكم. وهناك عصفور آخر يسمى «الوروار» نسبة إلى صوته، وفيه جميع ألوان الطيف. ولسبب مجهول يجتذبه الدخان، فتُحرق له الحرائق، فيحوم حولها بكثافة غبية - أو حسن نية - فيطلق عليه الصيادون النار، ويحولون العشرات منه إلى وليمة. ويكمل الناجون سبيلهم إلى بلدان أرحم بالعصافير.
ولعلنا أكثر إنسانية من بعض الأميركيين. ففي ولايات كثيرة، استخدمت أعمدة المستر بيل مشنقة طارئة أقيمت على عجل لإعدام «عبد» أسود ضُبط وهو يمد يده إلى كرم من العنب.
وهل من الترف الإنساني أن تفكر في القبرات فيما ألوف البشر يُسحقون كل يوم، ويُذلون كل لحظة في بلاد العرب أوطاني؟ أجل. لكن على الإنسان أن يتعلم الرحمة بدءاً بعدم اغتيال البلابل. «صوت صفير البلبل... هيج قلب الثملي»، أنشد الأصمعي.