محمد رُضا
صحافي متخصص في السينما
TT

ذات يوم في المكتبة

عندما كنت في السادسة عشرة، في أواخر الستينات، عملت في مكتبة يملكها شخص راحل الآن، تقع في أول شارع بلس في بيروت، قريباً من مستشفى الجامعة الأميركية وصالة سينما أورلي.
لم يكن عملاً دائماً بل فقط في فترة كل صيف عندما تتوقف الدراسة ولثلاث سنوات. في الصيف الأول تعلمت الركض لأن صاحب المكتبة الذي لم تكن لديه رخصة لاستبدال العمولات كان يرحب بالزبائن الأجانب ويشجعهم على الدفع بالعملة الأجنبية، دولارات، فرانكات فرنسية، باوند إنجليزي. كان يرسلني إلى صراف أرمني في مقابل مدخل الجامعة الأميركية. يكلمه هاتفياً فيحضر له ذاك المبلغ ويقول لي مشيراً إلى المبلغ الكبير: «هذا تضعه في جيبك اليمين للزبون»، ثم يناولني المبلغ الصغير: «وهذا تعطيه لمعلمك بعد أن يغادر الزبون».
المبلغ الصغير لم يكن عمولة بل الفارق في السعر ما بين الرسمي وذلك الذي وافق عليه الزبون. أركض عائداً وأناول المبلغ الكبير لصاحب المكتبة الذي يسلمه بنفسه إلى الزبون المبتسم. ثم يهمس صاحب المكتبة للزبون بأن يرعى خاطري، فيمنحني ذاك دولاراً أو اثنين ويخرج سعيداً بأنه لم يُخدع، بعد أن يبتعد، يمد صاحب المكتبة يده فأعطيه ما في الجيب الأيسر.
كنت قارئاً شغوفاً وكانت أمامي كل مجلات الدنيا لكي أقرأها. لكني لم أطالع الصحف السياسية ولو كنت أرقب عناوينها الأولى وأحاول وضع تلك التي لا أحبها في أماكن أقل ظهوراً، والصحف اللبنانية كانت بالعشرات: «الأنوار»، و«المحرر»، و«لسان الحال»، و«الشعب»، و«العمل»، و«الجريدة»، و«البيرق»، و«الراصد»، و«النبأ»، و«اللواء»، و«النهار»، و«الصدى»، وغيرها كثير. معظمها بالطبع توقف اليوم. كذلك توقفت معظم المجلات الأميركية التي كنت شغوفاً بقراءتها: Look، Life، Men’s Only، Alfred Hitchcock Mystery Magazine، Film Journal. كذلك العربية إذ شهدت تلك الفترة غزوة من المجلات الفنية بعضها غاب بعد حين عن الصدور (مثل «العروسة» و«السينما والعجائب») وبعضها غاب لاحقاً.
كان الزبائن خليطاً من اللبنانيين والسياح العرب والأجانب ورجال الأعمال. أحياناً كان على صاحب المكتبة أن يجد حلاً لأزمة طارئة مثل ذلك الهيبي الأجنبي الذي صف سيارته الفان أمام المكتبة مباشرة طوال اليوم واكتشفنا أنه ينام فيها أيضاً. في اليوم التالي نقر صاحب المكتبة على شباك السيارة وطلب من السائق المغادرة وإلا جلب له البوليس. امتثل لذلك على الفور.
كان لدينا زبون يعمل في مصرف قريب اعتاد أن يقرأ كل الصحف مجاناً لنحو نصف ساعة ثم يمضي. ذات يوم نسي نظارته في الدكان، فوجدناها فرصة لأن نخفي النظارة حتى لا يعود. بعد يومين عاد بنظارة جديدة.
تعلمت كثيرا من عملي في هذه المكتبة. كنت، وقد وقعت في هوى السينما والصحافة أتعلم بالقراءة. لم يخطر ببال أحد مطلقاً أن أي شيء سيتغير، وأن الصحافة اللبنانية والصحافتين العربية والأجنبية ستصل إلى هذه الأيام التي بتنا فيها نقرأ على الإنترنت ما كنا نفتح الصحيفة أو المجلة ونتلقفه ثم نعود إليه ونحفظه.
في مطلع السبعينات أخذت كلمة «كومبيوتر» تتردد في بعض الأفلام الأميركية ويُشار إليها كجهاز معلومات ضخم تملكه وكالة «ناسا» أو أي مؤسسة من حجمها. ذات يوم لاحق وجدنا الجهاز الضخم وقد صار بحجم الهاتف، نستخدمه جميعاً وننسى ما عداه.