سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

ليس من نبت الشيطان!

الصدفة التي تريد هذه السطور أن تشير إليها، تبدو عند الوهلة الأولى محيرة للغاية، ورغم أن الصُدف بطبيعتها تبعث على الحيرة في كل أحوالها، فإنها في حالتنا هذه تتجاوز مرحلة إثارة الحيرة، إلى مرحلة أعلى تطرح على عقل المتابع لها ألف سؤال وسؤال!
ففي أسبوع واحد، هو الأسبوع الماضي، وأكاد أقول في يوم واحد، تكلم رجلان من ذوي الشأن في بلديهما، ورغم أن بين البلدين ست ساعات بالطائرة، أو أكثر، ورغم أن بلداً منهما على الشاطئ الشرقي للمحيط الأطلسي، والآخر على الشاطئ الغربي، فإن محصلة الكلام، دون اتفاق ظاهر، كانت واحدة، وإن المعنى الواصل للمتلقي كان أيضاً واحداً!
الرجل الأول هو اللورد جوناثان إيفانز، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية البريطاني، الذي يشتهر باسم مختصر من حروف وأرقام هكذا: إم آي 5!
والرجل الثاني هو المستر دانيال بيمان، الذي يقدم نفسه للرأي العام، على أنه أستاذ في معهد بروكينغز الأميركي الشهير!
كلا الرجلين قال ما معناه أن تنظيم داعش المتطرف، موجود معنا في هذا العالم لثلاثين عاماً مقبلة، أو بمعنى أدق فإن علينا في عالمنا أن نوطن أنفسنا على أن التنظيم، لن يختفي قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الزمان من الآن!
في الكلام طبعاً تفاصيل أخرى، من نوعية أن مواجهة بريطانيا مع الإرهاب ممتدة، وأن هذه المواجهة، حسب حديث إيفانز مع «بي بي سي 4»، ممتدة لفترة من عشرين إلى ثلاثين سنة، وأن المشكلة على الجانب البريطاني مشكلة أجيال، لا مشكلة جيل بمفرده، وأن على السلطات في لندن أن تعطي اهتماماً أكبر لأمن الإنترنت، لتكون أقدر على التعامل مع الجرائم الإلكترونية!
والتفاصيل على الشاطئ الأميركي لا تختلف عنها كثيراً لدى الشاطئ الإنجليزي، وكلها من نوعية أن الولايات المتحدة إذا كانت قد نجت بشكل كبير من هجمات «داعش»، فإن نشاطه الباقي في الشرق الأوسط لفترة، سوف يظل يهدد مصالحها وقد يصيبها!
السؤال الذي حيرني كان كالتالي: ما هي بالضبط الوسيلة التي اعتمد عليها الرجلان في تحديد عُمر التنظيم، وكيف جاء التقدير متطابقاً إلى هذا الحد؟!.. ثم لماذا سيبقى «داعش» مع منطقتنا، ومع العالم ثلاثين عاماً حداً أقصى، وليس أربعين سنة، مثلاً، ولا عشرين؟!
إنني ممن يؤمنون بأن قصة هذا التنظيم لم تُكتب بعد، ولن تُكتب هذه الأيام، فما هو ظاهر أمامنا من القصة، لا يكاد يمثل شيئاً مما هو مختبئ منها تحت الأرض، وسوف يأتي يوم يطلع فيه هذا الجزء المخفي فوق السطح، وسوف نعرف وقتها مَنْ هو أبو بكر البغدادي، ومَنْ يقف وراءه، وبالتالي يقف وراء الحكاية كلها من ألفها إلى أن يحين أوان كتابة حرف الياء فيها، ليكون هو الخاتمة!
إن «داعش» فكرة، قبل أن يكون تنظيماً، واختفاء التنظيم من الموصل في أرض العراق على سبيل المثال، لا يعني انتهاءه؛ لأن الفكرة هي أساسه، وهي التي إذا تلاشت، تلاشى هو معها، بل بعدها، وليس العكس في جميع الأحوال!
هذا التنظيم ابن شرعي لبيئة محلية، وإقليمية، وعالمية، وليس نبتاً من الشيطان، والتعامل معه يبدأ من عند البيئة التي أنتجته وأفرزته، وليس من خارج حدودها، أو إطارها... إنني لا أزال أذكر تماماً أن الشيخ يوسف القرضاوي قال إن البغدادي كان إخوانياً في صغره، وهو تصريح نشرته «الشرق الأوسط» على لسانه، ولم يشأ من جانبه أن ينفيه في اليوم التالي لنشره، ولا في أي يوم فيما بعد، ومعنى هذا أن لدى الإخوان كجماعة، فكراً يفرز الدواعش في نهاية الأمر، وأن علينا نحن هنا في المنطقة، وفي داخل كل دولة على حدة، ثم خارج المنطقة، أن نتعامل مع هذا الفكر المنتج للتطرف، بالتفنيد تارة، وبالكشف عن سوئه وعدم صلاحيته، تارة أخرى!
التعامل مع الجماعة الإخوانية، باعتبارها معمل تفريخ للفكر المتشدد، قد يكون في بُعد من أبعاده، بتعقب عناصرها المعتنقين لهذا الفكر، أو الداعين إليه، لكنه قبل ذلك، أو مع ذلك بالتوازي، لا بد أن يجري بتعقب الفكر نفسه، وكشف سوءاته أمام جيل الشباب، حتى لا يقع فريسة لضلالاته!
وهذا تحديداً ما كنت أنتظره من اللورد إيفانز، ومن المستر بيمان، فكلاهما يعرف على سبيل القطع أن نشأة الجماعة عام 1928 في مدينة الإسماعيلية المصرية، كانت برعاية بريطانية، ثم بحماية وعناية بعد ذلك إلى اليوم، وأن واشنطن إذا لم تكن قد رعت في البداية، ولا حمت أو اعتنت في مراحل لاحقة من تاريخ الجماعة، فإنها، أي العاصمة الأميركية، تواصلت، ودعمت، وسكتت، وعند الضرورة استغلت!
إذا كانت الجماعة هي الأصل، و«داعش» هو الفرع، فالتعامل من البديهي أن يبدأ بالأول، وأن نسمع من اللورد إيفانز، علاجاً جاهزاً بعد تشخيص الداء، فالداء كلنا نعرفه، وأول العلاج أن نعرف ماذا جرى في شأن التقرير الذي كانت حكومة ديفيد كاميرون، قد أعدته وقرأتْ فيه، حسب ما هو معلن عنه في وقته، أن الانتماء إلى الإخوان، يمكن أن يكون مقدمة إلى اعتناق أفكار العنف!
البداية تكون بموقف بريطاني أقوى، وأوضح، ثم أوقع، من الفكر الإخواني المتطرف الذي يلوذ بالجزر البريطانية؛ لأن تجفيف منابعه فيها، طريق مباشر إلى محاصرته ومحاصرة خطره خارجها!