البطيخ... محاولات علمية مستمرة لمعرفة فوائده الصحية

يعزز عمل الأوعية الدموية

مستوى جودة التغذية الإجمالية لدى الأطفال والبالغين كان أعلى بين متناولي البطيخ
مستوى جودة التغذية الإجمالية لدى الأطفال والبالغين كان أعلى بين متناولي البطيخ
TT

البطيخ... محاولات علمية مستمرة لمعرفة فوائده الصحية

مستوى جودة التغذية الإجمالية لدى الأطفال والبالغين كان أعلى بين متناولي البطيخ
مستوى جودة التغذية الإجمالية لدى الأطفال والبالغين كان أعلى بين متناولي البطيخ

تستمر نتائج أبحاث ودراسات التغذية الإكلينيكية في إعطاء دعم لاحتمالات الفوائد الصحية لتناول البطيخ (الأحمر) Watermelon. وإضافة إلى طعمه اللذيذ، وغناه بالماء والألياف وعدد من المعادن والفيتامينات - المفيدة كلها مع أجواء الصيف - فإن الدراسات حوله تطرح تأثيرات إيجابية محتملة على عدد من أجزاء الجسم. وهذه الفوائد تُعزى لاحتواء البطيخ على عدد من المركبات الكيميائية ذات التأثيرات الحيوية الإيجابية داخل الجسم، مثل مضادات الأكسدة، ومضادات الالتهابات، ومنشطات كفاءة عمل الأوعية الدموية، وغيرها.

فوائد البطيخ

وضمن فعاليات المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية للتغذية Nutrition 2023، الذي يُعقد في الفترة ما بين 22 إلى 25 يونيو (حزيران) المقبل في بوسطن، سيتم عرض إحدى الدراسات الأميركية عن البطيخ، التي كانت قد أفادت نتائجها بأن مستوى جودة التغذية الإجمالية لدى كل من الأطفال والبالغين، كان أعلى بين متناولي البطيخ، مقارنة بغير المستهلكين له. وتوصلت هذه الدراسة إلى هذه النتيجة بعد تحليلها بيانات المسح الوطني الأميركي لفحص الصحة والتغذية NHANES، وتم نشرها في مجلة المُغذيات Nutrients، لسان حال الجمعية الأميركية للتغذية American Society for Nutrition.

وأوضحت كريستين فولغوني، المتخصصة في التحليل البحثي ومؤلفة الدراسة، أن متناولي البطيخ من الأطفال والبالغين يتناولون كميات أكبر من الألياف الغذائية والمغنيسيوم والبوتاسيوم وفيتامين سي وفيتامين إيه، بالإضافة إلى المركبات المضادة للأكسدة Antioxidants، وخاصة مركبات الليكوبين Lycopene (الحمراء اللون) وسيترولين Citrulline والكاروتينات الأخرى. وفي الوقت نفسه كانوا أقل تناولاً للسكريات المضافة ولإجمالي الأحماض الدهنية المشبعة.

وبالإضافة إلى هذه الدراسة، هناك دراسة أميركية جديدة أخرى بحثت في تأثيرات المركبات الكيميائية في البطيخ على مدى تفاعل الأوعية الدموية ومدى حصول تغيرات في معدل نبض القلب HRV، عند التعرّض لمستويات عالية من سكر الغلوكوز في الدم. ونشرت نتائج هذه الدراسة التي تم إجراؤها في جامعة ولاية لويزيانا، ضمن عدد فبراير (شباط) الماضي من مجلة «المُغذيات» Nutrients، وأظهرت أن تناول المُكمّلات المستخلصة من عصير البطيخ الطبيعي Watermelon Juice Supplementation، يحمي كفاءة عمل الأوعية الدموية Vascular Function، ويضمن حصول تغيرات في معدل نبض القلب، عند ارتفاع السكر في الدم، وذلك مقارنة بتناول مُكمّلات وهمية.

وفي دراسة جامعة ولاية لويزيانا، فحص الباحثون على وجه التحديد، التأثيرات المحتملة الفائدة لمركبات أرجنين L-arginineوسيترولين L-citrulline الطبيعيين الموجودين بغزارة في البطيخ، على التوافر البيولوجي لأكسيد النتريك Nitric Oxide في بطانة الأوعية الدموية. وكذلك على مدى حصول تقلبات في معدل ضربات القلب.

الدراسات تطرح تأثيرات إيجابية محتملة للبطيخ على عدد من أجزاء الجسم

وكان عنوان الدراسة «تأثير مكملات عصير البطيخ على تقلب معدل ضربات القلب والاستجابة الأيضية أثناء تحدي الغلوكوز الفموي».

وسبب استخدامهم في الدراسة للمُكمّلات المستخلصة من عصير البطيخ الطبيعي، وليس قطع البطيخ الطبيعي، هو لمنع تسبب كمية السكر في البطيخ الطبيعي، بأي اختلال في متابعة تأثير تناول كمية عالية و«محددة» من السكر عبر الفم Oral Glucose Challenge خلال الدراسة.

وكانت فكرة الدراسة ذكية، وهي فحص مدى حماية تناول هذه المركبات المستخلصة من البطيخ الطبيعي، لكفاءة توسع ومرونة الأوعية الدموية، عند ارتفاع نسبة سكر الدم. وكذلك مدى حصول التغيرات الطبيعية لمعدل نبض القلب، بالرغم من ارتفاع نسبة السكر في الدم.

تخفيف سكّر الدم

ومعلوم أن لدى الإنسان الطبيعي لا بد أن يختلف معدل نبض القلب خلال اليوم بفعل ممارسة الأنشطة خلاله، وهو ما يُسمى Heart Rate Variability. ومن أبسط الأنشطة أخذ هواء الشهيق (يرتفع معدل نبض القلب) وإخراج هواء الزفير (ينخفض معدل نبض القلب) عند التنفس، أو القيام بعد الجلوس لفترة (يرتفع معدل نبض القلب)، وغيرها من الأنشطة. وهذا الاختلاف الطبيعي في معدل النبض يعكس سلامة الجهاز العصبي اللاإرادي. وبالمقابل، يُعتبر عدم حصول اختلاف في معدل النبض خللاً وظيفياً، ويرتبط بجوانب من أمراض القلب والأوعية الدموية، وبضعف الجهاز العصبي اللاإرادي Autonomic Dysfunction. وهو ما قد يحصل لدى مرضى السكري وبعض الأمراض العصبية. وارتفاع نسبة السكر في الدم، هو من أمثلة مسببات عدم حصول هذه التغيرات في النبض.

وفي هذه الدراسة، تبين للباحثين أن تناول مستخلصات عصير البطيخ خفف من التأثير السلبي لارتفاع نسبة سكر الدم على حصول هذا الاختلاف الطبيعي والمتوقع في نبض القلب.

والجانب الإيجابي الآخر الذي لاحظه الباحثون، هو مساعدة تناول مستخلصات عصير البطيخ في زيادة التوفر البيولوجي Bioavailability لمركبات أكسيد النتريك في الأوعية الدموية، ما يضمن توسعها وكفاءة عملها بشكل أكبر حتى مع وجود ارتفاع في نسبة السكر في الدم.

وأفاد الباحثون بأنه وبالرغم من الحاجة إلى إجراء مزيد من البحث والدراسات حول هذا الأمر، فإن النتائج الإيجابية المبدئية في هذه الدراسة، تُضاف إلى المجموعة الحالية المتوفرة من الأدلة العلمية التي تدعم أن تناول البطيخ بانتظام هو سلوك غذائي مفيد لصحة القلب وعمليات الأيض الكيميائية الحيوية في الجسم Cardio-Metabolic Health.

القيمة الغذائية للبطيخ... ماء وفيتامينات ومعادن

بعد الموز، يأتي البطيخ بالمرتبة الثانية في مقدار الإنتاج العالمي للفواكه الحلوة الطعم. وبشكل تقريبي في مقدار الوزن، يفوق إنتاج البطيخ العالمي إنتاج كل من البرتقال واليوسف أفندي معاً، وإنتاج كل من العنب والمانغو معاً، وكذلك يفوق مجموع إنتاج كل من التفاح والفراولة والأفوكادو.

وهذه الوفرة الإنتاجية له، والإقبال الواسع على تناوله، هي سبب اهتمام الباحثين العلميين في دراسة التأثيرات الصحية المحتملة لتناوله.

والبطيخ أحد أنواع «الفواكه» الصيفية. ولذا فإن الإقبال على تناوله بالأساس يهدف إلى توفير السوائل للجسم، لتبريد الجسم وتعويض نقص السوائل فيه خلال أيام الصيف الحارة. ولذا تأتي القيمة الغذائية للبطيخ، مقارنة ببقية المنتجات النباتية، من احتوائه على كمية عالية من الماء بنسبة 91 في المائة.

كما تشكل السكريات الحلوة الطعم فيه نسبة 6 في المائة، والألياف حوالي 2 في المائة، إضافة إلى مجموعة واسعة من المعادن والفيتامينات والألياف، وأكثر من 100 مركب كيميائي ذي تأثيرات بيولوجية وظيفية في جسم الإنسان.

وبالتحليل الكيميائي، فإن كل 100 غرام (2/3 كوب) من قطع البطيخ الطازج تحتوي فقط على 30 كالوري من السعرات الحرارية. وتأتي هذه السعرات الحرارية من السكريات، لأن كمية البروتينات والدهون ضئيلة جداً في لب البطيخ. وهذه الكمية من البطيخ توفر للجسم حاجته اليومية من فيتامين سي بنسبة 10 في المائة، ومن فيتامينات إيه وبي -1 وبي -2 وبي-3 وبي-5 وبي-6 بنسبة 4 في المائة، ومن معادن الكالسيوم والحديد والمنغنيز والمغنيسيوم والفسفور والبوتاسيوم والزنك بنسبة 3 في المائة.

ولكن الميزة الأهم في القيمة الغذائية للبطيخ، هي للمركبات الكيميائية ذات التأثيرات البيولوجية في الجسم، التي تُصنّف «مغذيات نباتية» Phytonutrients. ومنها فئة الكاروتينات وغيرها، التي هي مركبات مضادة للالتهابات ومضادة للأكسدة، غزيرة التوفر في البطيخ الأحمر، مثل مركبات ليكوبين الحمراء في اللبّ، ومركبات سيترولين (من الأحماض الأمينية) في اللب والقشرة. وعلى سبيل المثال، فبتناول 100 غرام من البطيخ الأحمر الطازج، يمكن الحصول على حوالي 5 ملّيغرامات من الليكوبين. وهذه الكمية تجعل البطيخ الأحمر يحتوي على كمية ليكوبين أعلى من الطماطم الحمراء.

كما أن بذور البطيخ غنية بالمواد المغذية، مثل مركبات الفلافونويد، والكاروتينات، والأحماض الفينولية، والبروتينات، والكربوهيدرات، والدهون. وكقيمة غذائية، وبمراجعة عدة مصادر غذائية، يحتوي كل 30 غراما من بذور البطيخ المقشرة، على حوالي 160 كالوري، 50 في المائة منها تأتي من الدهون التي تبلغ حوالي 9 غرامات، والتي 90 في المائة منها دهون صحية غير مشبعة. وتشكل الكربوهيدرات 16 غراما، 90 في المائة منها ألياف كربوهيدراتية. وتشكل البروتينات حوالي 6 غرامات. وتتركز في البذور ومعادن الحديد والفسفور والمغنيسيوم والبوتاسيوم والزنك والمنغنيز بكميات تغطي ما يفوق 30 في المائة من حاجة الجسم اليومية إليها.

مضادات الأكسدة في البطيخ... تأثيرات صحية محتملة

بالرغم من الهدف العلمي حالياً ليس إثبات أن تناول البطيخ علاج لأي من الأمراض، إلاّ أن التعرف العلمي على المركبات الكيميائية في البطيخ، والتأثيرات الصحية الإيجابية المحتملة لها، قد يعزز طرحه بوصفه منتجا غذائيا صحيا يجدر الحرص على تناوله.

ومن تلك المركبات التي يُركّز الباحثون عليها، مركبات الليكوبين Lycopene ذات الخصائص المضادة للأكسدة في عائلة الكاروتين. وذات الصبغة التي تعطي البطيخ لون لبّه الأحمر المميز. وتم ربط الليكوبين بفوائد صحية تتراوح من صحة القلب إلى الحماية من حروق الشمس وأنواع معينة من السرطانات.

وتشير المصادر العلمية إلى نظرية الحماية التي توفرها مضادات الأكسدة، التي مفادها أن مضادات الأكسدة، مثل الليكوبين، تحمي الجسم من الأضرار التي تسببها المركبات المعروفة باسم الجذور الحرة Free Radical. وعندما تفوق مستويات الجذور الحرة مستويات مضادات الأكسدة، فإن ذلك يصنع حالة من الإجهاد التأكسدي Oxidative Stress. ويرتبط هذا الإجهاد ببعض الأمراض المزمنة، مثل السرطان والسكري وأمراض القلب ومرض ألزهايمر.

وبالمقابل، تظهر الأبحاث أن خصائص مضادات الأكسدة في الليكوبين يمكن أن تساعد في الحفاظ على توازن مستويات الجذور الحرة، وحماية الجسم من بعض هذه الحالات. ومن الفرضيات المطروحة، أن مفعول الليكوبين القوي المضاد للأكسدة، قد يمنع أو يبطئ تطور بعض أنواع السرطان. وغالبية الدراسات المؤيدة لهذه الفرضية على الخلايا الحية في المختبرات وعلى حيوانات التجارب.

ولكن دراسة استمرت 23 عاماً على حوالي 50 ألف رجل نظرت في العلاقة بين الليكوبين وسرطان البروستاتا بمزيد من التفصيل. وكان الرجال الذين تناولوا الأطعمة الغنية بالليكوبين أقل عرضة للإصابة بسرطان البروستاتا. كما وجدت مراجعة علمية لـ26 دراسة سابقة، أن ثمة رابطاً إيجابياً بين تناول كميات كبيرة من الليكوبين وانخفاض احتمالية الإصابة بسرطان البروستاتا. ولكن هناك حاجة إلى مزيد من الأبحاث لتأكيد ذلك بالنسبة لكمية الليكوبين التي يوفرها تناول كمية معتدلة من البطيخ، على تحقيق أي فوائد صحية في هذا الجانب. وكذلك بالنسبة لاحتمالات استفادة الأوعية الدموية في القلب والدماغ والجهاز الهضمي، من خلال التفاعلات المضادة للأكسدة في التعامل مع الدهون في الجسم، وخاصة في جدران الشرايين.

كما تطرح بعض الدراسات مركبات كيكيربيتيسين Cucurbitacin الموجودة في البطيخ، والتي تعمل مكملة لعمل الليكوبين لجهة تقليل شدة الالتهابات عن طريق تنشيطها لإنزيم سيكلوكسي جينز -2COX-2. وأيضاً الحمض الأميني سيترولين Citrulline، الذي وإن كان يتركز بشكل أكبر في قشور البطيخ والطبقة البيضاء منه، إلا أن تناول 100 غرام من لب البطيخ الأحمر يوفر للجسم حوالي 300 مليغرام منه.

وترتكز فرضية دور السيترولين في دعم صحة الأوعية الدموية، على دوره في عملية التمثيل الغذائي المعروفة باسم دورة اليوريا Urea Cycle، التي تشارك فيها ثلاثة أحماض أمينية (سيترولين وأرجينين وأورنيثين) في عملية إنتاج أكسيد النيتريك Nitric Oxide، وهو مركب كيميائي مهم جداً في كفاءة عمل شرايين القلب والدماغ، وكذلك وتوسع شرايين الجهاز الهضمي أثناء عملية هضم الطعام. وهو الذي يلعب دوراً رئيسياً في تنظيم تدفق الدم ومقدار ضغط الدم من خلال الشرايين، عبر عمله على توسيع تلك الشرايين، وأيضاً في تنظيم مستويات سكر الغلوكوز في الدم.


مقالات ذات صلة

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

صحتك استهلاك الأطعمة التي تحتوي على «أوميغا 3» و«أوميغا 6» مثل الأسماك الزيتية يقلل معدل خطر الإصابة بالسرطان (جمعية الصيادين الاسكوتلنديين)

أطعمة تقلل من خطر الإصابة بـ14 نوعاً مختلفاً من السرطان

وجدت دراسة أن استهلاك «أوميغا 3» و«أوميغا 6»، وهي الأحماض الدهنية التي توجد في الأطعمة النباتية والأسماك الزيتية، قد يؤثر على معدل خطر الإصابة بالسرطان.

«الشرق الأوسط» (نيويورك)
يوميات الشرق الغضب لا يزال يشكل حافزاً مهماً للنجاح في العالم الحديث (رويترز)

الأشخاص الغاضبون «أكثر ميلاً للنجاح»... كيف؟

كشف أحد علماء الأعصاب أن الأشخاص الغاضبين أكثر ميلاً للنجاح، وقال الدكتور جاي ليشزينر إن الشعور بالغضب قد يكون «محركاً مهماً» للنجاح في العالم الحديث.

«الشرق الأوسط» (لندن)
العالم صورة تحت المجهر الإلكتروني والتي قدمها المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في عام 2024 لجزيئات فيروس جدري القردة باللون البرتقالي الموجودة داخل الخلايا المصابة باللون الأخضر (أ.ب)

كندا ترصد أول إصابة بسلالة فرعية من جدري القردة

أكدت وكالة الصحة العامة الكندية أمس (الجمعة) رصد أول حالة إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة في كندا لدى شخص في مانيتوبا.

«الشرق الأوسط» (مونتريال)
المشرق العربي فلسطيني يحمل طفلة صغيرة مصابة داخل مستشفى كمال عدوان في قطاع غزة (أ.ف.ب)

وزارة الصحة: كل مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل خلال 48 ساعة

حذرت وزارة الصحة في قطاع غزة من توقف جميع مستشفيات القطاع عن العمل أو تقليص خدماتها خلال 48 ساعة بسبب نقص الوقود، إذ ترفض إسرائيل دخوله للقطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
صحتك سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

سمنة البطن مع وزن طبيعي للجسم... مشكلة صحية تستدعي الاهتمام

تعتمد الأوساط الطبية بالعموم في تحديد «مقدار وزن الجسم» على عدد الكيلوغرامات بوصفه «رقماً»

د. حسن محمد صندقجي (الرياض)

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف
TT

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي: خيارات العلاج المستهدف

الصداع النصفي ليس مجرد صداع عادي يعاني منه الجميع في وقتٍ ما، بل هو اضطراب عصبي معقد يمكن أن يُشعر المريض وكأن العالم قد توقف. مع كل نوبة، قد يبدو الألم لا يُطاق، مُصاحباً بأعراض شديدة كالغثيان والحساسية للضوء والصوت. وعلى الرغم من أن أعراض الصداع النصفي مؤقتة، فإن مدة ألم الصداع يمكن أن تجعل المريض يشعر باليأس وكأن الحياة قد انتهت.

ولكن ومع التطورات الطبية الحديثة، بدأت تظهر خيارات علاجية تُعيد الأمل لملايين المرضى حول العالم تتحكم في الصداع النصفي فور حدوثه ومنعه من التدخل في النشاط اليومي للمريض.

مؤتمر طبي

نظّمت الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع، يوم الثلاثاء، 19 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، مؤتمراً طبياً بعنوان «نهج جديد في علاج الصداع النصفي» (NEW APPROACH in MIGRAINE TREATMENT). وعُقد المؤتمر بالتعاون مع المركز الطبي الدولي وشركة «Abbvie» الطبية، وقام ملتقى الخبرات بتنظيمه.

غلاف كتيّب المؤتمر

شاركت في المؤتمر نخبة من المتخصصين، إذ قدّم الدكتور سعيد الغامدي، استشاري الأعصاب بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بجدة، وأستاذ مساعد في جامعة الملك سعود بن عبد العزيز للعلوم الصحية، عرضاً حول خيارات العلاج المستهدف للصداع النصفي من خلال التجارب السريرية.

كما تناولت الدكتورة ميساء خليل، استشارية طب الأسرة ومتخصصة في الرعاية الوقائية وطب نمط الحياة، أهمية دور الرعاية الأولية في التعامل مع الصداع وعبء الصداع النصفي على عامة السكان.

واختتم الجلسات الدكتور وسام يمق، استشاري الأعصاب ومتخصص في علاج الصرع، بتسليط الضوء على الاحتياجات غير الملباة في العلاجات الحادة للصداع النصفي.

اضطراب عصبي شائع

في حديث خاص مع «صحتك»، أوضح الدكتور أشرف أمير، استشاري طب الأسرة، نائب رئيس الجمعية السعودية لطب الأسرة والمجتمع، ورئيس المؤتمر، أن الصداع النصفي (الشقيقة) يُعد من أكثر الاضطرابات العصبية شيوعاً على مستوى العالم. وأشار إلى أنه اضطراب عصبي معيق يُصيب نحو مليار شخص عالمياً، يتميز بنوبات من الألم الشديد النابض، غالباً في أحد جانبي الرأس، وترافقه أحياناً أعراض مثل الغثيان، التقيؤ، والحساسية الشديدة للضوء والصوت، مما يؤثر بشكل كبير على حياة المرضى اليومية.

وأكد الدكتور أمير أن الصداع النصفي يؤثر على أكثر من عُشر سكان العالم، مما يجعله إحدى أكثر الحالات انتشاراً، والتي تنعكس سلباً على جودة حياة المصابين، إضافة إلى تأثيره الواضح على الإنتاجية وساعات العمل.

وأضاف أن التطورات الحديثة في مجال الأبحاث الطبية أسهمت في فهم أعمق لآلية حدوث الصداع النصفي، وهو ما فتح الباب أمام تطوير علاجات مبتكرة وفعّالة. كما أشار إلى أن هذا التقدم يمثل تحولاً كبيراً في التعامل مع هذا الاضطراب، الذي كان يُعدُّ في السابق حالة مرضية غامضة يصعب تفسيرها أو السيطرة عليها.

وبائيات الصداع النصفي

يعاني أكثر من مليار شخص حول العالم من الصداع النصفي، أي حوالي 11.6 في المائة من سكان العالم. وتظهر الدراسات أن النساء أكثر عُرضة للإصابة به مقارنةً بالرجال.

وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ترتفع النسبة إلى 11.9 في المائة. أما في السعودية، فيُقدَّر انتشار الصداع النصفي بـ9.7 في المائة، أي ما يعادل 3.2 مليون شخص، مما يجعله ثاني أكبر سبب للإعاقة بين السكان. وتُشير دراسات محلية، أُجريت في منطقة عسير، إلى أن الصداع النصفي أكثر انتشاراً في المدن (11.3 في المائة) مقارنة بالمناطق الريفية (7.6 في المائة)، وهو ما يعكس ارتباطه بعوامل بيئية وسلوكية متعددة.

عوامل الخطر والأسباب

* الآلية المرضية يُعتقد أن الصداع النصفي ينشأ من تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية والعصبية. وتُشير الدراسات الحديثة إلى أن نوبات الصداع النصفي قد تنشأ من فرط استثارة في قشرة الدماغ، ما يؤدي إلى تنشيط الجهاز العصبي الثلاثي. ويمكن لبعض المُحفّزات، مثل التقلبات الهرمونية، الإجهاد، نقص النوم، والعوامل الغذائية، أن تُساهم في بدء نوبات الصداع النصفي لدى بعض الأفراد المُعرضين لذلك.

أما أسباب الصداع النصفي فتتضمن عوامل متعددة تشمل:

* العامل الجيني: تلعب الوراثة دوراً مهماً في زيادة احتمال الإصابة بالصداع النصفي، إذ تشير الأبحاث إلى ارتباط الجينات ببعض البروتينات العصبية مثل «الببتيد» المرتبط بجين «الكالسيتونين» (Calcitonin Gene-Related Peptide, CGRP).

* التغيرات في الدماغ: تساهم بعض الاضطرابات في نظام التفاعل بين الأوعية الدموية والجهاز العصبي المركزي في زيادة احتمال الإصابة.

* العوامل البيئية: يمكن أن تؤدي التغيرات البيئية مثل التوتر، أو النوم غير المنتظم، أو بعض أنواع الأطعمة والمشروبات إلى تحفيز النوبات.

مراحل الصداع النصفي والتشخيص

* مرحلة البادرة (Prodrome): تبدأ بتغيرات مزاجية، شعور بالتعب، أو حتى رغبة ملحة في تناول الطعام.

* مرحلة الهالة (Aura): تشمل اضطرابات بصرية أو حسية تحدث قبل نوبة الصداع، وتظهر لدى بعض المرضى فقط.

* مرحلة الألم: يصاحبها ألم شديد نابض، غالبًا في جهة واحدة من الرأس، وتستمر من 4 إلى 72 ساعة.

* مرحلة ما بعد الألم (Postdrome): تتسم بالإرهاق والارتباك، لكنها تُعد علامة على انتهاء النوبة.

* التشخيص: يعتمد أساساً على التاريخ المرضي والفحص السريري، مع استبعاد الأسباب العضوية الأخرى. وتشمل المعايير التي يعتمد عليها الأطباء في التشخيص حدوث خمس نوبات على الأقل متكررة من الصداع، تدوم بين 4 و72 ساعة، ومصحوبة بعلامتين من العلامات التالية: ألم من جهة واحدة، نبضات شديدة، ألم شديد، وأعراض مصاحبة كالغثيان.

خيارات علاجية تقليدية وحديثة

وتشمل:

* أولاً: مسكنات الألم. تاريخياً، اعتمدت إدارة الصداع النصفي على مزيج من العلاجات الحادة والوقائية، بما في ذلك مسكنات الألم المتوفرة بدون وصفة طبية، ومضادات المهاجمات، والأدوية الوقائية مثل مضادات الاكتئاب، ومضادة للصرع، وحقن البوتكس. وعلى الرغم من أن هذه العلاجات وفرت الراحة لكثير من المرضى، فإنها محدودة في فاعليتها ولا تخلو من الآثار الجانبية.

* ثانياً: خيارات علاجية «دوائية» حديثة. تؤكد الأبحاث العلمية أن تصميم عقار موجه خصيصاً لعلاج مرض معين يُعد الخطوة الأمثل لتحقيق فاعلية أعلى وتقليل الآثار الجانبية. ودفع هذا المبدأ الباحثين إلى الغوص عميقاً في دراسة آليات الصداع النصفي، ما قادهم لاكتشاف دور بروتين محدد يُعرف بـ«CGRP». ويُطلق هذا البروتين أثناء نوبة الصداع النصفي وينخفض مستواه بمجرد انتهاء النوبة.

في إحدى الدراسات، عندما تم حقن الأشخاص ببروتين (CGRP)، أُصيبوا بنوبات تُشبه الصداع النصفي، ما أكد دوره الحاسم في هذه الحالة. وأدى هذا الاكتشاف إلى تحول جذري في علاج الصداع النصفي، إذ تمت الموافقة في عام 2018 من قبل إدارة الغذاء والدواء الأميركية على أول جسم مضاد أحادي النسيلة يستهدف البروتين (CGRP) للوقاية من الصداع النصفي. ويعدُّ هذا العلاج المبتكر خياراً مستهدفاً ودقيقاً، إذ يعمل على تعطيل مسار البروتين العصبي المسؤول عن نوبات الصداع النصفي، مما يمثل نقلة نوعية في تحسين حياة المرضى.

وتشمل هذه الأدوية:

- أجسام وحيدة النسيلة مضادة للببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين (CGRP)، تمت الموافقة على أربعةٍ منها من قبل إدارة الغذاء والدواء: «إبتينيزوماب» (eptinezumab)، «إرينوماب» (erenumab)، «فريمانيزوماب» (fremanezumab)، و«جالكانيزوماب» (galcanezumab). وقد تم تصميمها للعثور على بروتينات (CGRP)، وقد أظهرت فاعليتها في تقليل شدة وتكرار النوبات، سواء أُعطيت عن طريق الفم أو الحقن تحت الجلد، مع حد أدنى من الآثار الجانبية مقارنة بالعلاجات الوقائية التقليدية.

- أجسام وحيدة النسيلة مضادة لمستقبلات الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين (CGRP). تحتضن هذه الأجسام المستقبلات بشكل أساسي بحيث تكون غير نشطة، هما اثنتان: «أبروجيبانت» (Ubrogepant) و«ريميجيبانت» (rimegepant)، وهما أحدث العقاقير لعلاج الصداع النصفي عند الحاجة والتي لا تؤدي إلى تضييق الأوعية الدموية. تعمل هذه الأدوية عن طريق الفم على حظر مستقبلات (CGRP) على أمل إيقاف نوبة الصداع النصفي المستمرة بالفعل. ومن حسنات هذه الأدوية أن ليس لها خطر الإصابة بالصداع الناجم عن الإفراط في تناول الأدوية مثل بعض علاجات الصداع النصفي الأخرى.

نظم الذكاء الاصطناعي وأدوات الصحة الرقمية تسهم في تحسين دقة التشخيص وإدارة المرض

علاجات بلا أدوية

* ثالثاً: خيارات علاجية «غير دوائية»، وتضم:

- أجهزة التعديل العصبي القابلة للارتداء. تُعد هذه الأجهزة طريقة علاجية مبتكرة لعلاج الصداع النصفي، إذ تستخدم نبضات كهربائية أو مغناطيسية إلى الرأس أو الرقبة أو الذراع لتعديل نشاط المسارات العصبية المحددة المشاركة في آلية حدوث الصداع النصفي، تعمل على إعادة النشاط الكهربائي غير الطبيعي في الدماغ إلى طبيعته.

وقد أثبتت الدراسات أن استخدام هذه الأجهزة، المعتمدة من قبل إدارة الغذاء والدواء أظهر نتائج واعدة في إدارة الصداع النصفي الحاد والوقائي، مما يوفر بديلاً خالياً من الأدوية، وهي آمنة وآثارها الجانبية قليلة جداً.

- استخدام الذكاء الاصطناعي. أسهم الذكاء الاصطناعي في تحسين دقة التشخيص عن طريق تطوير خوارزميات تستطيع تحليل التاريخ المرضي وبيانات المرضى لتحديد الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بالصداع النصفي، مما يساعد في توفير علاجات موجهة وفعالة.

- أدوات الصحة الرقمية. بالإضافة إلى العلاجات الدوائية والقائمة على الأجهزة، أدت الصحة الرقمية إلى تطوير تطبيقات الهواتف المحمولة والتقنيات القابلة للارتداء التي يمكن أن تساعد في إدارة الصداع النصفي. يمكن لهذه الأدوات الرقمية مساعدة المرضى في تتبع أعراضهم، وتحديد المُحفّزات، وتقديم توصيات مخصصة للتعديلات في نمط الحياة وأساليب العلاج.

تعاون عالمي ومحلي

مع التطورات العلمية الحديثة في فهم آلية حدوث الصداع النصفي وتطوير خيارات علاجية مبتكرة، لم يعد الصداع النصفي حُكماً على حياة المرضى بالتوقف.

وتلعب الجمعيات الطبية والهيئات الصحية، مثل الجمعية السعودية للصداع، دوراً محورياً في تحسين حياة المرضى من خلال التوعية، وتوفير خيارات علاجية موجهة.

ويبدأ الحل بالبحث عن العلاج المناسب وعدم تجاهل هذه الحالة العصبية المعقدة. ومع الاستمرار في الابتكار، يمكننا تخفيف العبء وتحقيق جودة حياة أفضل للمرضى.

*استشاري طب المجتمع