بنيامين أبلبوم
خدمة «نيويورك تايمز»
TT

مصاعب بريطانيا اليوم... مستقبل أميركا غداً

استمع إلى المقالة

لو طُلب من الأميركيين أن يغمضوا أعينهم ويتخيلوا المستقبل فربما لن تطرأ على مخيلتهم صورة بريطانيا؛ فهي أرض الماضي: قلاع، وبيرة دافئة، وملك حقيقي. ومع ذلك، خلصت دراسة جديدة إلى أن الأحداث الجارية على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي -تحديداً المصاعب التي تخوضها بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي- تُقدّم لمحة عمّا قد يحمله الغد للولايات المتحدة.

في الواقع، جاء قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي بمثابة كارثة اقتصادية بكل المقاييس. وتُقدّر الدراسة، التي نشرها «المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية»، الشهر الماضي، أن الناتج الاقتصادي السنوي لبريطانيا أقل بنحو 6 إلى 8 في المائة مما كان سيبدو عليه لو اختار الناخبون البريطانيون البقاء تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. الحقيقة أن هذه خسارة أكبر في الناتج الاقتصادي مما تكبدته بريطانيا في ذروة الركود، الذي أعقب الأزمة المالية عام 2008. إنها ضربة أقوى مما كانت ستعانيه البلاد لو اختفت جميع البنوك وشركات السمسرة وصناديق التحوّط في لندن فجأة.

ويصف مؤلفو الدراسة، وهم مجموعة مكونة من 5 اقتصاديين أميركيين وأوروبيين، نتائجهم بأنها تحمل تحذيراً للولايات المتحدة. جدير بالذكر هنا أنه لا توجد أمثلة كثيرة على انسحاب الدول المتقدمة من الأسواق العالمية. وعليه، تُقدّم التجربة البريطانية إحدى نقاط المقارنة القليلة فيما يخص السياسات التجارية التقييدية التي ينتهجها الرئيس دونالد ترمب.

وبأسلوب جاف، خلصت الورقة البحثية إلى أنه «فيما يخص خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ترك الأمر أثراً اقتصادياً كبيراً على المملكة المتحدة».

اليوم، أصبحت الخلفية العامة معروفة؛ فخلال النصف الثاني من القرن العشرين، قادت واشنطن جهوداً عالمية لتقليل الحواجز التجارية. وحسب أي تقييم منطقي، فاقت فوائد هذه الجهود تكاليفها. ومع ذلك، لم تبذل النخب السياسية جهداً يُذكر لتقليل تلك التكاليف. واليوم، نعيش ردة فعل عكسية لهذه الجهود. وتصف الورقة البحثية انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي بأنه مثال على «إصلاح تجاري عكسي». وقد وصفه ترمب، خلال حملته الرئاسية الأولى بأنه تمهيد لما سيأتي. وفي أغسطس (آب) 2016، بعد شهرين من تصويت بريطانيا المفاجئ على مغادرة الاتحاد الأوروبي، غرّد ترمب عبر «تويتر»، قائلاً: «سيطلقون عليَّ قريباً لقب السيد بريكست!».

واشترك الرئيس وداعمو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الخوف من الغرباء. في الواقع، بنى ترمب مسيرته السياسية برمتها على فكرة أن بقية العالم تستغل الولايات المتحدة؛ فالتجارة، في نظره، ليست سوى «استنزاف الدول الأخرى لأموالنا، والهجرة هي سرقة الآخرين لوظائفنا»، والمعاهدات الدولية قيود تحدّ من سيادة أميركا.

وحتى الآن، وبعد أن بات من المستحيل تجاهل سلبيات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يظل ترمب مؤيداً لخطوة الانفصال. وعندما سُئل هذا الصيف عما إذا كانت بريطانيا قد استفادت إلى أقصى حد من خروجها من الاتحاد الأوروبي، أجاب ترمب بأن التنفيذ كان «غير متقن، لكنني أعتقد أنه في طريقه إلى التحسن».

وسعياً لتقييم عواقب خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تستند الدراسة الجديدة إلى مسح دوري للشركات، بما في ذلك آلاف الشركات التي توظف نحو 10 في المائة من العاملين في القطاع الخاص البريطاني.

وتمثلت النتيجة الأكثر إثارة للاهتمام -بالنسبة للولايات المتحدة- في أن حالة عدم اليقين تسببت في ضرر أكبر من التغييرات في قواعد التجارة؛ بمعنى أن الشركات قادرة على التكيف مع مجموعة جديدة من العوائق، لكن ما أربك الشركات حقّاً على امتداد العقد الذي تلا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ما يُفترض منها التكيف معه.

الواقع أن سياسات ترمب التجارية المتقلبة أدت إلى إثارة مزيد من الارتباك؛ فحسب أحد المقاييس، رفعت الجولة الأولى من إعلانات الرسوم الجمركية في أبريل (نيسان) مستوى عدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية لواشنطن إلى أعلى متوسط شهري له منذ 4 عقود على الأقل.

نتاجاً لذلك، تضررت الشركات الصغيرة بشدة، إذ تجد صعوبة أكبر في التكيف، وتفتقر إلى النفوذ السياسي اللازم للحصول على استثناءات خاصة، بل حتى الإجراءات الورقية للقواعد الجديدة تُثقل كاهلها. ومن الدروس المستفادة الأخرى من دراسة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، أن الأضرار تتراكم تدريجياً. ورغم عدم تحقق التوقعات بأن تعريفات ترمب ستعصف بالاقتصاد الأميركي كالإعصار، فإن هذا تحديداً لم يكن موطن الخطر الحقيقي مطلقاً. الحقيقة أن «بريكست» تسبب في إلحاق الأذى ببطء وهدوء، مع تقليص الشركات استثماراتها وتوظيفها وابتكاراتها. وجاءت الآثار التراكمية لقرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي عميقة.

بطبيعة الحال، توجد اختلافات بين الوضع الاقتصادي لبريطانيا عام 2016 والولايات المتحدة اليوم. على سبيل المثال، كان الاقتصاد البريطاني يعاني الركود حتى قبل الـ«بريكست»، في حين يشهد الاقتصاد الأميركي طفرةً هائلةً بفضل قطاع الذكاء الاصطناعي. كما أن الاقتصاد البريطاني يعتمد على التجارة بأكثر من ضعف اعتماد الاقتصاد الأميركي، ما يجعله أكثر عرضة للمخاطر.

ويبقى هناك فرق آخر، قد يكون الأهم؛ كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قراراً لا رجعة فيه؛ فبريطانيا لا يمكنها ببساطة التصويت لصالح الانضمام مجدداً إلى الاتحاد الأوروبي. وبذلك تتجلّى المفارقة في أن قراراً جرى تصويره بوصفه خطوة نحو تأكيد السيادة البريطانية، ترك البلاد أكثر اعتماداً على حسن نوايا جيرانها الأوروبيين.

* خدمة «نيويورك تايمز»



عاجل «التحالف»: رصدنا دخول سفينتين قادمتين من ميناء الفجيرة بالإمارات إلى ميناء المكلا