د. عبد الله فيصل آل ربح
أكاديمي سعودي, أستاذ مشارك لعلم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية جراند فالي الأميركية, وزميل أبحاث غير مقيم بمعهد الشرق الأوسط بواشنطن العاصمة. نشر العديد من الأبحاث المحكمة في دوريات رصينة, إضافة لنشره لعدة دراسات في مراكز الفكر بواشنطن. ومن أهم إصداراته كتاب «المملكة العربية السعودية في الصحافة الأنجلو: تغطية المملكة في القرن العشرين»
TT

حين يرسم الدين مسار المصالح

استمع إلى المقالة

لا يمكن طي صفحة الجدلِ القديم المتجدّد حولَ علاقة الدين بالدنيا، وتأثير المعتقد على جيبِ الإنسان، واقتصاده؛ فهي مسألة حيَّة لم تُحسم بعد. وهنا يظلُّ ماكس فيبر حاضراً بقوة، بصفتِه علامةً فارقةً لا يمكن تجاوزُها في هذا المضمار.

في قراءته العميقة للنفس البشرية، وعلاقتِها بالمقدّس، يأخذنا فيبر إلى منطقةٍ أبعد بكثير من اختزال الدين في مقولة كارل ماركس «أفيون الشعوب» الشهيرة، والمنزوعة من سياقها؛ فهو لا يراه مجردَ عزاء للمتعبين، بل يعده محركاً يقدم تفسيراً عقلانياً لواحدٍ من أعقد ألغاز الحياة المتمثل في التناقض بين القدر والجدارة، أو لماذا ينجح بعضٌ ويفشل آخرون؟

حين قلّب فيبر المسار الديني، من الكونفوشيوسية، والبوذية، وصولاً للمسيحية، والإسلام، لم يكن يبحث عن نصوص عقائدية، بل كان يفتش عن الدوافع الخفية التي تدفع الناس للعمل، تلك التي سمَّاها الأخلاق الاقتصادية. وهذه الأخلاق ليست مجرد تعاليم، بل هي حالة نفسية عملية يشكلها الدين، وتتأثر بلا شك بمصالح الناس السياسية، والاقتصادية.

واللافت في تحليل فيبر هو ربطه لهذه الأخلاق بطبيعة البشر الذين يحملونها. فالدين يتشكّل برؤية معتنقيه، سواء كانوا فلاحين، أو محاربين، أو مثقفين؛ فرؤية هؤلاء للعالم هي التي تصبغ الدينَ بصبغته العملية. كما أنَّ للدين قدرةً عجيبة على تقديم إجابات مريحة؛ فهو يمنح الأثرياء شعوراً بأنَّ ثروتهم مستحقة، وليست ضربة حظ، وفي المقابل يفتح لغير المحظوظين باباً للأمل، والخلاص، غالباً عبر الزهد، أو الصبر، مبرراً معاناتهم بأفكار كالكارما، أو القضاء والقدر.

وهنا تحديداً يطرح فيبر استعارته العبقرية المعروفة بـ«عامل التحويلة».

فالمصالح المادية -اقتصادية كانت، أو سياسية- هي القاطرة الحقيقية التي تدفع سلوك البشر بقوة هائلة، لكن الأفكار الدينية هي التي تعمل كعامل تحويلة على سكة الحديد؛ هي لا تدفع القطار، لكنَّها تحدد المسار الذي سينطلق فيه قطار المصالح بسرعة قصوى.

هذا المسار يعتمد على نوع التوجيه الديني؛ فبعض الرموز، مثل بوذا، قدموا نموذجاً للخلاص عبر التأمل، والهروب من العالم، وهو مسار لا ينتج عادة نشاطاً اقتصادياً كبيراً. أمَّا المسار الآخر، كما نرى في البروتستانتية، فيقدم المصلحُ فيه نفسَه بوصفه أداةً لمطالب إلهية تفرض العمل في الدنيا لا الهروب منها. هنا يتحوَّل العمل عبادةً، والكدحُ دليلاً على الخلاص.

ورغم أنَّ بعض العقائد ترى أنَّ مصير الإنسان محددٌ سلفاً، فإنَّ المؤمن يجد نفسه مدفوعاً للعمل الشاق، وتجنّب ملذات الحياة. والسبب أنَّ الدين هنا تحوَّل ببراعة خطّاً إرشاديّاً، ونظامَ حياة صارماً. لقد نجح «عامل التحويلة» الديني في توجيه طاقة المصالح نحو العمل الدنيوي المنظم، ليؤسس بذلك، ومن حيث لا يحتسب، لروح الرأسمالية الحديثة التي نعيشها اليوم.