لم يكن الصراع على قطاع غزة محتدماً سياسياً وعسكرياً وأمنياً، ومثاراً لجدلٍ بعضُه معلَن وأغلبه وراء الكواليس، كما هو حاصل هذه الأيام. الجميع يترقب الخطوة التالية في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، التي تؤسس لإدارة القطاع وفق رعاية دولية ممثلة فيما يُعرف بمجلس السلام بقيادة الرئيس ترمب، وهو ما يتم التفاوض بشأنه وراء الكواليس من دون أن تظهر حتى اللحظة مؤشرات واضحة يمكن الاسترشاد بها لغزة الجديدة. ويبدو الأمر مفهوماً إلى حد كبير؛ فالتصورات الأميركية ذات عناوين براقة ومن دون تفاصيل يُعتد بها. وتعد إشكالية الدور المنوط لقوة الاستقرار ومن يشارك فيها ومن يُستبعد منها، إحدى القضايا الشائكة، التي لم تُحسم تفاصيلها بعد.
اليوم التالي لغزة، وفقاً للطرح الأميركي، الذي أكد تطبيقه ستيف ويتكوف مبعوث الرئيس ترمب، قبل يومين، ستكون بدايته قبل نهاية العام الحالي، أما انتشار القوة الدولية فسيكون في منتصف يناير (كانون الثاني) العام المقبل. ومع ذلك فلا يقين يمكن التعويل عليه. فالضغوط الأميركية على إسرائيل بخصوص بدء المرحلة الثانية تبدو لدى أغلب المتابعين ضغوطاً مترددة، بل متفهمة للمطالب والأعذار الإسرائيلية من دون أي لوم على الانتهاكات التي يقترفها جيش الاحتلال والموثَّقة يومياً. وهنا مربط الفرس كما يُقال؛ فمن دون التزام صادق وشفاف من كل الأطراف وأولهم البيت الأبيض نفسه، يظل اليقين غائباً، وفي أفضل الأحوال مُحاطاً بالشكوك.
هذا الطرح الأميركي لا يمثل سوى أحد البدائل. فثمة بديل إسرائيلي مُعلن، ومتعدد الأبعاد؛ أولها استمرار احتلال شرق القطاع، وعدم الانسحاب أبعد مما يُعرف بالخط الأصفر الحالي، الذي يمنح إسرائيل السيطرة على أكثر من نصف مساحة القطاع، والاستمرار في تدمير ما فيه من مقومات لا تتيح للفلسطينيين الموجودين فيه، أو الذين اضطروا إلى المغادرة منه سابقاً، ويتطلعون للعودة إليه لاحقاً، أن يجدوا ما يعينهم على البقاء مستقبلاً. هنا يأتي الشق الثاني من بديل إسرائيل، وهو الأخطر، وعنوانه تفريغ القطاع وتهجير أهله قسراً إلى المجهول. تصريحات إسرائيل بشأن فتح معبر رفح في اتجاه واحد للخارج، تجسد طموحها في جعل القطاع بلا فلسطينيين، مما يعني فرصة تاريخية للاستيطان والسيطرة على الأرض بلا سكانها الأصليين. الرفض المصري والعربي والإسلامي الجازم لهذه الترهات البائسة، هو حائط الصد الحقيقي لهذه الطموحات الاستعمارية، وهو العنصر الأقوى في فرض معادلة البقاء الفلسطيني والتمسك بالأرض حتى الوصول إلى خروج آخِر جندي إسرائيلي من القطاع.
بُعد ثالث لدى البديل الإسرائيلي، يُعنى بنشر الفوضى في القطاع، ودفع مكوناته العشائرية إلى الاقتتال تحت شعار مواجهة العنف الحمساوي بدعمٍ إسرائيلي مباشر ومُعلن معاً. لم تُخفِ إسرائيل لا سابقاً ولا حالياً نيتها في البحث عن بديل مجتمعي ليناطح «حماس» في نفوذها وحكمها للقطاع. جرَّبت سابقاً أساليب عدة؛ كتفويض قادة بعض العشائر حماية المساعدات وتوزيعها في مناطق يحددها الاحتلال، وتفويض قادة محليين مهام الأمن وفقاً للمتطلبات الإسرائيلية، وتشكيل مجموعات مسلحة تعلن صراحةً مهمة مواجهة «حماس» عسكرياً لصالح جيش الاحتلال، بل القيام بمهام استطلاع للمناطق والمباني التي يخطط جيش الاحتلال لاقتحامها، من دون مواجهة أي مصاعب. حالة مجموعة أو عصابة ياسر أبو شباب مثالٌ فجٌّ على خطط تفجير المجتمع الفلسطيني وبذر الفتن الدموية بين عشائره ومكوناته الأصيلة.
مع مقتل أبو شباب، وتحديداً وفق رواية خليفته غسّان الدهيني للإعلام العبري، برصاصة طائشة في أثناء نزاع بين قبيلة الظبري وأبو سنيمة، تتضح معالم الخطر في تفتيت المجتمع الفلسطيني، ولكن من جانب آخر يتجسد فشل العقل الإسرائيلي في فهم المعادلات المجتمعية الحاكمة في القطاع. فالاعتماد على مسلحين بلا مشروعية وبلا قبول من المجتمع الفلسطيني لن يحقق سوى الفشل، فهُم، كما ذكرت قبيلة الترابين التي أعلنت فرحتها بمقتل أبو شباب وتبرأت منه، نظراً لخيانته ودعم الاحتلال، ليسوا سوى «عرائس ماريونت» بيد الاحتلال، بلا أى نخوة وطنية.
ويظل السؤال الأهم: ماذا عن رؤية «حماس»؟ فهي تقبل التخلي عن حكم القطاع، وتقبل وجود سلطة تكنوقراط فلسطينية، وأن ينحصر دور قوة الاستقرار في مراقبة وقف إطلاق النار، مع وجود شرطة فلسطينية، من دون أي وصاية دولية، لكنها -وهو الأهم- لن تسلم سلاحها إلا للدولة الفلسطينية، وبعد انتهاء الاحتلال، وهو الأمر الذي يعني أنها ستظل مؤثرة في شؤون القطاع ما دامت الدولة الموعودة أمامها طريق طويل لا يقين بشأنه في ظل الظروف الراهنة. واللافت أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في مقابلة على هامش منتدى الدوحة، أكد وجوب تشكيل إدارة مدنية فلسطينية ذات مصداقية وقوة شرطة مدرّبة حتى يتسنى لحركة «حماس» إلقاء السلاح، مع استعداد الحركة لتسليم إدارة القطاع.
شِقٌّ من هذه الرؤية التركية يؤيد تأجيل تسليم سلاح «حماس»، وجزءٌ آخر يرى أن الأمر مرتبط بتشكيل قوة شرطة فلسطينية موثوقة، وليس الانتظار حتى إقامة الدولة الفلسطينية. البُعدان كلاهما؛ الاتفاق والاختلاف، يطرحان إشكالية مَن سيتحمل مسؤولية أمن القطاع في حال انسحب جيش الاحتلال تدريجياً كما تعد خطة الرئيس ترمب؟ ويظل المنظور المصري كما أوضحه وزير الخارجية، أن حكم غزة سيكون فلسطينياً وليس خارجياً بأي حال. والواضح أن تعدد تلك البدائل، وما فيها من تناقضات، يقف حجر عثرة أمام التوصل إلى خطة عمل يمكن تطبيقها عملياً، كما يؤجل اليقين بشأن اليوم التالي لغزة ولأهلها المنهكين.
