منتدى «مسك» العالمي 2025 الذي جاء تحت شعار «بإبداع الشباب»، وبرعاية مؤسسة محمد بن سلمان «مسك»، كان هذا العام مختلفاً واستثنائياً، لا من حيث عدد المشاركين الذي بلغ نحو 30 ألف مشارك و300 متحدث من 80 دولة، ولا من حيث تنوع الورش التي بلغت أكثر من 150 ورشة وجلسة حوارية. هذا الحراك الشبابي الحقيقي في مدينة «مسك» يكشف عن ملامح الدور السعودي الجديد في عالم يموج بالتحولات السريعة والتحديات غير المسبوقة. وأن الشباب لم يعودوا مجرد محور للنقاش، بل أصبحوا شركاء حقيقيين في صياغة رؤية أوسع لدور المملكة في النظام الدولي المقبل.
فمنذ انطلاق منتدى «مسك» العالمي في 2016، ووصولاً إلى نسخته الأخيرة في 2025، تبلور دوره كمنصة تنموية لتعزيز الحوار وتبادل الأفكار، وتمكين الشباب لصناعة تغيير إيجابي. وهنا تعيد الرياض من خلال منتدى «مسك» العالمي بناء أحد أهم عناصر قوتها الحديثة، وهي القوة الناعمة القائمة على الشباب والمعرفة والابتكار. فبعد عشر سنوات من النجاحات المتواصلة تشكَّل لدى المنتدى تراكم معرفي واستراتيجي جعله جزءاً من أدوات الدبلوماسية السعودية، عبر قوة الأفكار، والاستثمار في الجيل الجديد، وصياغة صورة المملكة دولياً، وتعزيز اقتصاد معرفي متنوع. ومن هنا يمكن فهم المحاور التي تجعل المنتدى عنصراً فاعلاً في تعزيز الحضور الدولي للسعودية وتوسيع دبلوماسيتها الحديثة.
فالمنتدى أصبح منصة تساعد المملكة على توسيع حضورها عبر إنتاج خطاب عالمي جديد حول الابتكار والمعرفة والتنمية البشرية، وبناء تأثير هادئ، متوازن، غير صدامي يعيد تقديم السعودية للعالم كنموذج يُستفاد منه. فمن خلال جلسات وحوارات حول الذكاء الاصطناعي والمبادرات الشبابية والشراكات الدولية، تتحول الرياض إلى محطة لصناعة المعرفة. وهكذا يصبح المنتدى قوة معرفية تبني روابط وتحالفات تتشكل مع الوقت، وتسبق في أثرها الدبلوماسية الرسمية، مما يمنح المملكة تأثيراً أطول مدى من أي بيان سياسي عابر.
ونعود ونقول إن مصدر هذه القوة هو الجيل الجديد من الشباب. فمن خلال المنتدى يتعزز الحضور الدولي للسعودية عبر ما يمكن تسميتها «دبلوماسية الجيل الجديد». فحسب الإحصاءات العالمية؛ العالم اليوم يعيش أكبر كتلة شبابية في تاريخه، حيث يضم أكثر من 1.2 مليار شاب، أغلبهم في الدول النامية، مع توقع زيادة نسبتهم بحلول 2030. وبالتالي يصبح الاستثمار في الشباب في وقت مبكر عبر منصات دولية مثل منتدى «مسك» العالمي، رافداً ورصيداً دبلوماسياً للمملكة. فالشباب المشاركون من دول مختلفة في مبادرات «مسك» سوف يعودون إلى بلدانهم وقد خلقوا روابط مهنية وثقافية مع السعودية. وهذا سوف يؤدي مع الوقت إلى توسيع شبكة العلاقات غير الرسمية، ويتشكل ما يشبه «جيلاً عالمياً» على صلة مبكرة بالمملكة، من المرجح أن يصل جزء كبير منه إلى مواقع القرار في العقود المقبلة، وهو تأثير لا تصنعه البيانات الدبلوماسية بل التجارب الإنسانية المباشرة. وهناك تجارب دولية أثبتت عمق هذا التأثير؛ على سبيل المثال برنامج «فولبرايت» الأميركي الذي أُطلق عام 1946. خرج من هذا البرنامج أكثر من 400 ألف مشارك، كثير منهم أصبحوا إما رؤساء دول وإما وزراء خارجية أو مسؤولين حكوميين، وأصبح لديهم ارتباط بالنموذج الأميركي لسنوات طويلة. والشيء نفسه ينطبق على مِنَح مثل «تشيفنينغ» البريطانية وبرامج «JICA» اليابانية وغيرها. وأنا شخصياً قبل سنوات عدة كانت لي تجربه مماثلة عبر برنامج الباحثين الشباب في الدراسات الصينية «Young Sinologists Research Program»، الذي منحني فرصة الاحتكاك المباشر بالثقافة الصينية ومراكزها البحثية، وبناء علاقات مهنية وإنسانية ما زلت على تواصل معها حتى اليوم. وبالتالي فهذه التجارب تثبت أن الدول التي تستثمر مبكراً في الشباب تبني نفوذاً وتأثيراً هادئاً يصعب كسره. وهذا بالضبط ما يفعله منتدى «مسك» العالمي؛ يصنع تجربة إيجابية تربط الشباب عالمياً بالمملكة، ويخلق علاقات تمتد لعقود، ويؤسس شبكة دعم مستقبلية للدبلوماسية السعودية... المسار نفسه الذي بنت عليه كبرى القوى الدولية نفوذها، ولكن بنكهة سعودية حديثة ورؤية أكثر عالمية.
ومن القصص الطريفة التي رواها لي أحد الدبلوماسيين العرب عن حفل رسمي في لندن، يقول: دخل سفير إحدى الدول العربية في لندن ومعه موظف شاب يرتدي ربطة عنق بدت غريبة، إلى حفل الاستقبال الرسمي. لم يلتفت الحضور كثيراً إلى السفير نفسه بقدر التفاتهم إلى الموظف الصغير ذي ربطة العنق. فما إن تقدم الشاب خطوة حتى بادره كبار المسؤولين البريطانيين باحترامٍ وحفاوة لافتة، وكان السّر يتلخص في ربطة العنق، فلم يكن السّر في شكلها، بل في معناها، فقد كانت ربطة خريجي إيتون، المدرسة التي تُخرِّج نخبة بريطانيا وصناع قرارها. رمز صغير لكنه يفتح أبواباً واسعة في مجتمع يعرف قيمة تلك الإشارة. وهذا ما يفعله المنتدى اليوم؛ يبني جيلاً وشبكة عالمية من القادة الجدد، يحملون رموزه الخاصة، وتربطهم بالمملكة علاقة لا تُشترى بل تُبنى عبر الزمن.
وهذا كله؛ أي القوة الناعمة الجديدة، سوف تنعكس بلا شك على الصورة الدولية الحقيقية للمملكة، الصورة التي أرست ملامحها «رؤية 2030»، والقائمة على الإبداع والانفتاح وتنوع مصادر القوة. ويظهر ذلك في حضور المواهب السعودية داخل جلسات المنتدى، وفي اختيار «مدينة مسك» فضاءً إبداعياً غير ربحي يعتمد على حلول مبتكرة، مما يعطي العالم صورة عملية للتحول الوطني ويعزز سردية سعودية جديدة أمام الرأي العام العالمي. وهو تحول يمثل أحد أبرز مكاسب الدبلوماسية السعودية الحديثة وانعكاساً لطموحات الرؤية.
ولكي يكون هذا المسار مستداماً، تبرز أهمية المنتدى بوصفه منصة اقتصادية صاعدة تسهم في بناء شراكات واسعة تتماشى مع «رؤية 2030» نحو اقتصاد معرفي متنوع. فهو يجمع بين الشركات السعودية الناشئة ورواد الأعمال والمستثمرين الدوليين، ليصبح مساحة لتوليد الفرص وتقاطعات رأس المال مع الابتكار. وما يعلَن على هامشه من اتفاقيات تعاون في مجالات التقنية والتنمية والاقتصاد الرقمي يعزز مكانته كجسر اقتصادي يربط المملكة بالأسواق العالمية. وهكذا يتحول المنتدى من فعالية شبابية إلى نافذة اقتصادية تعكس ملامح السعودية الجديدة وتدعم حضورها في عالم اقتصادي متعدد الأقطاب.
وفي الختام يمكن القول إن منتدى «مسك» العالمي أثبت اليوم أن الاستثمار في الجيل الجديد هو الطريق الأسرع لصناعة تأثير عالمي طويل المدى، وأن الرياض اليوم عبر «مسك» تبني جسور المستقبل مع جيل سيقود العالم غداً.
