كل الكتب التي أُلّفت عن حياة سيد قطب، سواء قبل صدور سيرة خالد محمد الذاتية «قصتي مع الحياة»، أو بعد صدورها، قالت إن سيد قطب هو منشئ مجلة «الفكر الجديد»، وإنه صاحب فكرة إنشائها.
خالد محمد خالد في سيرته الذاتية الصادرة عام 1993، أخبرنا بقصة هذه المجلة: كيف نشأت؟ ومن هو صاحب فكرة إنشائها؟ ولماذا نشأت؟ ولماذا اختير حلمي المنياوي لتمويلها؟
لأدع خالد محمد خالد يروي لنا القصة كاملة: «كنت أنا وأخي الشيخ نفكّر بإصدار مجلة أسبوعية باسم (الأزهر الجديد)، تحمل رسالة الأزهر إلى مصر التي كانت تتهيأ للانقضاض والثورة، وتُدحض بعض كبار العلماء الذين كان القصر يستقطبهم، ويحاول تسخير نفوذهم الديني لدعم سلطته وسطوته. ولكن أين الطريق إلى ذلك الإنجاز؟!
لم أكن حتى ذلك الحين أعرف الحاج المنياوي، بينما تؤلف بينه و(بين) الشيخ الغزالي علاقة وثقى. ومن ثم عرض عليه الشيخ فكرتنا فرحب بها أعظم ترحيب. ونهض بتقديم طلب رخصة المجلة، واستأجر لها شقة مجاورة لدار الطباعة (يقصد مطابع «دار الكتاب العربي» التي يملكها المنياوي)، وأمدّها بالأثاث المناسب».
إذن، فخالد محمد خالد ومحمد الغزالي كانا صاحبَي فكرة إنشاء المجلة، وغايتهما من إنشائها هي غاية إسلامية ثورية، وتحديداً تثوير الأزهر ضد القصر، أو النظام الملكي في مصر، وعلى رأسه الملك فاروق.
الاتجاه الإسلامي الثوري تجلى في كتابَي الغزالي الأولين: «الإسلام والأوضاع القانونية» و«الإسلام والمناهج الاشتراكية». ونظراً لتحول خالد محمد خالد إلى الفكر العلماني تجلى الاتجاه اليساري الثوري المُطعّم بإسلامية من أول كتابين له، وهما: «من هنا نبدأ» و«مواطنون لا رعايا».
الصلة بين الغزالي والحاج المنياوي نشأت من خلال الرفقة الحزبية بينهما في جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد عزز هذه الصلة طباعة ونشر الغزالي كتابه الأول في مطبعة ودار نشر يملكهما الحاج المنياوي. وهي مطابع و«دار الكتاب العربي».
يكمل خالد محمد خالد روایته، قائلاً: «وإنا لنعد بروفات لخمسة أعداد، وإذا بنا نفاجأ بزائر بعث به إلينا الحاج حلمي المنياوي، وكان طالباً بالسنة النهائية بكلية آداب القاهرة. كان الغرور دثاراً يغطي فجاجة إمكاناته، بيد أنه راح يحدثنا أنا والشيخ الغزالي من فوق منصته الأستاذية. وسرعان ما أشهدنا تفوقنا واقتدارنا الصحافي، فانسحب شاكياً إلى الحاج حلمي الذي سرعان ما اقتنع هو الآخر بأنه أساء الاختيار، واعتذر بأنه لم يرسله ليقود التحرير، بل ليكون فرداً بين كتّابها ومحرريها».
يذهب الظن بي إلى أن هذا الذي لم يذكر اسمه هو أنور المعدّاوي. وفي الوقت الذي كان هو ومحمد الغزالي يعدان بروفات لخمسة أعداد من مجلة «الأزهر الجديد»، وهو أواخر عام 1947، لم يكن أنور المعداوي طالباً في السنة النهائية، بل هو موظف في وزارة المعارف؛ فقد تخرج في جامعة فؤاد الأول – كلية الآداب – قسم اللغة العربية عام 1945.
أنور المعداوي من مدرسة الأمناء التي تسمّت باسم راعيها أمين الخولي. وكان عضواً فيها منذ إنشائها عام 1944. وسيد قطب هو الذي تبنّاه، فدعاه إلى الكتابة في مجلة «العالم العربي»، وذلك قبل أن يذيع اسمه في مجلة «الرسالة» ابتداءً من عام 1948.
كيف آلت مسؤولية تحرير مجلة «الأزهر الجديد» إلى سيد قطب؟ وكيف تغيّر اسمها إلى «الفكر الجديد»؟
حدّثنا خالد محمد خالد عن هذا الأمر، قائلاً: «وإنّا لعاكفون في نشاط وحبور على صنع مجلتنا، وإذا بنا نفاجأ بزائر جديد في أسبقيته وقدرته ومواهبه، وكان المرحوم الأستاذ سيد قطب. جاء ومعه بعض إخوانه الذين كانوا يعملون معه في كل صحيفة يتولى أمرها، وقال بعد تبادل التحايا: إن الحاج حلمي كلّفه بالإشراف على تحرير المجلة، وسيكون سعيداً بالعمل معنا من أجل إنجاحها. وأبدى عدم ارتياحه لاسمها - «الأزهر الجديد» - داحضاً إياه بحجة أنها بهذا الاسم تبدو متخصصة في علوم الأزهر وشؤونه، و - بالتالي - تشعر القارئ غير الأزهري بأنها لا تعنيه، ثم بالتالي – مرة أخرى – لا يكون لها في السوق ذيوع ولا مكان. قلنا للأستاذ سيد: إننا لا نهتم بالذيوع ولا بالتوزيع. كما أننا لن نبحث عن القارئ، بل سنحمله على أن يبحث هو عنّا، ثم - وهذا أهم ما في الموضوع - نريد أن يحمل الأزهر العريق رسالته التي طالما قاد بها الثورات في هذا الوطن العربي كله. وأن ينفي عن نفسه اللغو والكثير الذي يحاول تسخيره لأهواء القصور والاستبداد والاستغلال. نريد أن نقول للشعب: هذا هو أزهرك العظيم يتصدر زحفك نحو الحرية والعدل والنور. وقلت للأستاذ سيد: لقد كان في بالنا تسمية المجلة بـ(الفكر الجديد)، ولكننا عدلنا عنه إلى (الأزهر الجديد) للمعاني التي ذكرناها. واستفاض النقاش ليلتين كاملتين، وكلٌّ عند رأيه لا يريم. وفي الصباح التالي للقائنا الأول، قابلت الحاج حلمي المنياوي، فألفيته مؤثراً للأستاذ سيد قطب كرئيس للتحرير، ومقتنعاً بوجهة نظره كلها. ونقلت إليه عزمي على نفض يدي من المشروع. واتفقت مع الشيخ الغزالي على المجلة، إشرافاً عليها وكتابةً فيها. وفي الليلة التالية جاء الأستاذ سيد ومعه بطانته، وأخبرته أنني والشيخ الغزالي ننسحب من المجلة. سأل: لماذا؟ أجبته: عن نفسي أفسّر السبب: عندما أوجد في عمل ما بصفتي المسؤول الأول عنه، فإنني أرفض أن أتحوّل إلى المسؤول الثاني، ما دمت لم أفشل ولم أخفق. من أجل ذلك اخترت موقفي هذا على علم. وعلى الرغم من أنني والشيخ الغزالي متفقان على هذا، بل وعلى عدم الكتابة في المجلة، فإن له كامل الحرية في تغيير موقفه، والاهتداء برأيه. وغادرت المكان ولم أعد إليه قَطّ. وصدرت المجلة، وفوجئت بالشيخ الغزالي يكتب فيها! وعلى أية حال، فقد صدرت مرات قليلة في أعداد ضئيلة، ثم كفت عن الظهور بعد أن حققت خسائر كبيرة حملت الحاج على تسريحها».
قول خالد محمد خالد: «جاء ومعه بعض إخوانه الذين كانوا معه في كل صحيفة يتولى أمرها»، قاله على سبيل التندر والمبالغة وليس على سبيل الإخبار بوقائع صحيحة. فسيد قطب قبل أن يتولى أمر مجلة «الفكر الجديد» الأسبوعية كان قبل أشهر من توليه أمرها رئيس تحرير مجلة «العالم العربي» الشهرية التي صدرت في 10 أبريل (نيسان) 1947، والتي بعد صدور أربعة أعداد منها نحّاه يوسف شحاتة، مدیر إدارتها والشريك في ملكيتها وفي ملكية الدار التي تصدر عنها، وهي «دار العالم العربي». وحين نحّاه يوسف شحاتة من منصبه افترى وكذب عليه ليدّعي أنه كاتب ذو أخلاق وذو مبادئ لا يحيد عنها. وقد كنت كتبت في هذه الجريدة أكثر من مقالة عن قضيته مع يوسف شحاتة.
وقوله: «جاء الأستاذ سيد ومعه بطانته» هو تندر أوضح من التندر بفريق العمل الصحافي الذين أتى سيد قطب بهم للمشاركة معه في تحرير مجلة «الفكر الجديد».
إن خالد محمد خالد ساخط على سيد قطب وعلى زملائه؛ لأنه رأى أن سيد قطب استولى – بغیر حق – على مجلة كان من حقه وحق الغزالي أن يتقاسما مسؤولية تحريرها، وأن يختارا المحررين والكتّاب فيها. فهما صاحبا فكرتها، وكانا على وشك إصدارها، بعد أن أعدّا - سلفاً - ما يلزمها من رصيد محرّر من الأعداد. ولأنه ساخط عليه وعليهم كان كلامه الأخير ينضح بالشماتة من عمر المجلة القصير.
وقوله: «نريد أن يحمل الأزهر رسالته التي طالما قاد بها الثورات في هذا الوطن العربي كله»، مفاخرة مجانية من أزهري بالأزهر، فهو فيها كالحادي وليس له بعير.
في تصوري أن محمد الغزالي حنث بالاتفاق الذي أبرمه معه خالد محمد خالد لسبب شخصي غاب من ذاكرة الأخير، فلو لم يغب من ذاكرته لكان أشار إليه. سيد قطب ثنى محمد الغزالي عن الانسحاب من العمل في مجلة «الفكر الجديد»، بإخباره أنه قد كتب مقالاً يتضمن عرضاً وتعليقاً على كتابه الثاني «الإسلام والمناهج الاشتراكية»، سينشره في أول عدد من أعداد المجلة. وفعلاً نشره في عدد 1 يناير (كانون الثاني) 1948. وقبلها كان الغزالي ممتناً لسيد قطب لأنه قد كتب باحتفاء عن كتابه الأول «الإسلام والأوضاع القانونية» في جريدة «الوادي»، عدد 47، في 18 أغسطس (آب) 1947، والغزالي حينها كاتب ناشئ، وسيد قطب كاتب لامع.
وفي تصوري أن الغزالي لم يكن مثل خالد محمد خالد مستاءً من سيد قطب لاستيلائه على مشروعهما الصحافي الفكري البكر وتوجيهه وجهة غير أزهرية؛ لأنه في ذلك التاريخ كان منتشياً ومزهواً بالحفاوة القطبية بكتابَيه الأوّلين. وللحديث بقية.
