د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

تغيير القناعات «القسري»

استمع إلى المقالة

في إحدى أغرب قصص الحرب الكورية التي اندلعت مطلع الخمسينات، ابتكر الصينيون أسلوباً نفسياً بارعاً حَوَّل الجنود الأسرى الأميركيين إلى «متعاونين» من دون إشهار السلاح في وجه أحد. كان التعامل مع الأميركيين صعباً لأنهم قد دربوا جيداً على قول ثلاث معلومات فقط (الاسم والرتبة والرقم العسكري). كانت الخطة باختصار أن يطلب الصينيون من الجنود أمراً بسيطاً، يمكن تلبيته ثم يُبنى عليه فيما بعد أمور عديدة.

فبدأ الصينيون بخدعة نفسية سرعان ما صارت تدرّس في الجامعات الأميركية في علم التأثير. حيث طلبوا من الأسرى كتابة عبارة عابرة مثل «الولايات المتحدة ليست مثالية» وهي جملة لا تدعو للريبة. وما إن يوافق الأميركي حتى يطلب منه أمثلة على عدم مثالية بلاده، وقائمة بالمشكلات، ثم يكتب اسمه تحتها، ثم يقرأ ما كتبه زملاؤه فيتشجع أكثر فأكثر. بعدها يطلب منه الصينيون الشيوعيون مقالاً موسعاً عن مشاكل أميركا لكي يظفر بمكافآت متعددة كقطعة فاكهة أو سيجارة وغيرها.

والأميركي بطبيعة الحال معتاد على حرية التعبير وكان هذا المدخل الذي استغله الصينيون حتى صار بعض الجنود يستجيبون بتقديم اعترافات علنية.

وصار الأسير الأميركي من دون أن يشعر يحاول أن «يتسق» مع ما كتبه وقاله حتى أذيعت بعض الاعترافات داخل السجن وخارجه. وهذا ما يسمى في علم التأثير «الالتزام المكتوب».

وحاول الصينيون استغلال الرغبة الملحة لدى الأسرى الأميركيين في إخبار ذويهم بأنهم على قيد الحياة، فصاروا يشفعون خطاباتهم برسائل تدفع الرقابة الصينية إلى «فسح» مضمونها إذا ما كانت تتضمن عبارات «لطيفة» بحق الصينيين أو دعوات للسلام.

ما حدث في الصين هو ما كشفته دراسات عالم النفس الاجتماعي الأميركي إدغار شاين، عندما أظهر أن الفعل المكتوب يُغير صورة الإنسان عن نفسه. وأن «الالتزام الصغير» يُشجع على التزامات أكبر (لا شعورية). كما أن التوقيع العلني يزيد من الاتساق الداخلي للفرد. وفي نهاية المطاف هذا هو جوهر «مبدأ الاتساق» الشهير في علم التأثير الذي يدفع الإنسان إلى أن يكون متسقاً فعله مع ما يكرره قولاً وكتابة.

يمكن تغيير قناعات الناس أو التأثير فيهم من دون عنف أو إجبار. وهو بالضبط ما يحدث أيضاً في أسواق العالم من قبل البائع المحترف يحاول فقط أن يمنح زبونه شيئاً صغيراً ليكسب وده، ثم يبدأ بالتأثير الحقيقي.

وقد أظهرت تجربة عالمين آخرين، جونز وهاريس، أنه حتى عندما عُرضت على المشاركين مقالة مؤيدة للزعيم الكوبي فيدل كاسترو، وأُخبر بعضهم بأن الكاتب أجبر على كتابتها، ظلّ أغلبهم يعتقد أن الكاتب يُحب كاسترو لمجرد صدور رأي مكتوب باسمه.

وهذا هو فن التأثير الذي تتعدد أشكاله في زمن لم يعد فيه العنف والتهديد ملائمين لتغيير قناعات الناس أو ميولهم.