في مطلع الستينات، سُمع صراخ امرأة تستغيث في أحد أحياء نيويورك. كانت كيتي جينوفيز تُطعن بوحشية حتى الموت على مرأى من جيرانها. وسمعها نحو 38 شخصاً، لكن أحداً لم يهب لنجدتها، واكتفوا بمتابعة المشهد من نوافذهم، ولم يُكلّف أحد نفسه عناء الاتصال بالشرطة!
هذا الموقف هزّ الرأي العام والعلماء فعكفوا على دراسة ما أُطلِق عليه لاحقاً مصطلح «لا مبالاة المتفرج». هي باختصار ظاهرة تجعل المرء لا يميل نحو التدخل كلما زاد عدد الحاضرين. وكأنه يفترض أن غيره سيتولى زمام المسؤولية. بعد بحث مطوّل، توصل العلماء إلى أن هناك عاملين جوهريين وراء هذه الظاهرة العالمية، التي زاد قبحها في عصر تصوير الضحايا بدل إنقاذهم، وهما «انتشار المسؤولية» إذ يظن كل فرد أن غيره سيتصرف، والعامل الآخر «قوة المعايير الاجتماعية»؛ حيث يتريث الناس في ردود فعلهم حتى يروا إشارة مشجعة من الآخرين، وهكذا يسقط العديد من الضحايا في شتى الميادين.
يُخذل مظلوم، لأن من حوله افترضوا أن العدالة ستأخذ مجراها. ويُفصل موظف بريء لأن زملاءه آثروا الصمت. وتُهدر حياة مصاب لأن من شاهده لم يمد له يد العون. مع أن الشعور بالمسؤولية في تقديم الإسعافات الأولية أنقذ حياة ملايين الناس على مر التاريخ. ولذلك قيل في محكم التنزيل «ولا تكتموا الشهادة ومَن يكتمها فإنه آثم قلبه». فالشهادة عين المسؤولية.
يستحيل في الإدارة أن تجد هيكلاً تنظيمياً معتبراً، يضم مديرين لشخص واحد. مثلما يستحيل أن يمسك شخصان بمقود الطائرة في آن واحد. ولذلك قيل «كثرة الطباخين تُفسد الطبخة» وإذا تولى رُبّانان دفة القيادة غرقت السفينة. وهو مبدأ رسّخه العالم الإداري هنري فايول في نظريته «وحدة الأمر».
كما أن عدم وضوح المسؤوليات هو سبب تفاقم ظاهرة لا مبالاة الشهود (المتفرجين) في أعمالنا وحياتنا. ولذلك ذُهلتُ حين قدمت برنامجاً لكبار القياديين لجهة عربية سيادية تدير أزمات، من دقة فهم كل فرد وفريق لواجباته عند وقوع كارثة. إذ لديهم تعريف دقيق للفارق بين الأزمات والكوارث، وأنواع كلٍّ منهما. ويعرف كل شخص من هو بديله عند غيابه حتى لا تدبّ الفوضى، ويُعبَر بالناس إلى بر الأمان بأقل خسائر ممكنة.
إذا لم تُحدّد المهام، ضاعت المسؤولية، وإذا لم تتضح الصلاحيات، تراجعت المبادرة، وإذا لم تُفعَّل المحاسبة، غاب الانضباط. ولذلك ركز عالم الإدارة بيتر دراكر على أهمية مبدأ المسؤولية الواضحة في أطروحاته، وهو من أكثر المعاصرين الذين حببوا الناس في الإدارة وأقنعوهم بجدواها في شتى مناحي الحياة.
