التحولات الاستثنائيّة المتسارعة وغير المسبوقة التي شهدها الشرق الأوسط في الأشهر الأخيرة تشير إلى أن المنطقة مقبلة على المزيد منها في الآتي من الأسابيع والأشهر وربما السنوات، ذلك أن حجم هذه التحولات وعمقها وشموليتها على امتداد أكثر من دولة من دول «سايكس - بيكو»، إذا صح التعبير، يعني أن مفاعيلها لن تكون سهلة الاستيعاب سياسياً واجتماعياً واقتصادياً.
من عمليّة «طوفان الأقصى» التي انطلقت من قطاع غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وتلتها الحرب الإسرائيليّة المدمرة التي لا تزال مستمرة دون هوادة وقد حصدت أكثر من 45 ألف شهيد من القطاع، مروراً بحرب لبنان وتدمير عدد كبير من قرى الحافة الحدوديّة واستشهاد أكثر من ثلاثة آلاف مواطن، واستهداف البنى التحتيّة لـ«حزب الله» وقياداته وأفراده ومؤسساته، مروراً بالقصف المباشر المتبادل بين إيران وإسرائيل، وصولاً إلى سقوط نظام بشار الأسد في سوريا بعد 54 عاماً على استيلاء والده حافظ الأسد على السلطة؛ شريط أحداث بوتيرة متسارعة ومكثفة يكاد المرء لا يعرف كيف سوف تنتهي، أو بالأحرى إلامَ سوف تخلص؟
الأكيد أن محور المقاومة والممانعة قد مُني بهزائم متتالية، وقد أثبتت الأحداث أن العديد من الشعارات السياسيّة والعقائديّة التي رفعها طوال عقود لم تُترجم نفسها على الأرض في أكثر الأوقات حرجاً وصعوبة، وفي اللحظات التي واجهت مكوناته حرباً وجوديّة شنتها إسرائيل دون هوادة، فإذا بأعضاء المحور وقيادته يتفرجون على الانهيارات المتتالية، ولو أن بعض المتحدثين باسمه حافظوا على نبرة خطابيّة عالية ملأت الشاشات العربيّة ضجيجاً دون أن يكون لها أي سند واقعي وعملي على الأرض.
هذا الكلام ليس للشماتة، بل لقراءة واقعيّة بأن المرحلة المقبلة لا يمكن للأطراف المعنيّة فيها أن تواصل سياساتها ذاتها دون أن تجري مراجعة نقديّة تتمكن من خلالها من التقاط الأنفاس والتكيّف مع الواقع الجديد، وهذا الأمر ينطبق على كل عناصر المحور المذكور (الذي قد لا يصح بعد اليوم تسميته المحور نظراً لتفككه وتلاشيه تدريجيّاً)، وهو ما يفترض أن يحدث في لبنان وسوريا والعراق وإيران واليمن وكل مكان آخر.
في لبنان، بقدر ما هو مهم ألا يشعر فريق بأنه مهزوم، مهم أيضاً ألا يشمت فريق آخر بما حصل، ولو أن هامش الفرح متاح طبعاً، والاحتفال بتحقق العدالة المتأخرة في حق كوكبة من الشخصيّات التي ذهبت ضحية النظام الساقط هو أقل الإيمان على ضوء الخسائر الفادحة التي مُني بها هؤلاء.
المهم لبنانيّاً في هذه اللحظة المهمة والتاريخيّة أن يجري العمل بشكل حثيث على تثبيت وقف إطلاق النار وتحديد العوامل التي من شأنها أن تجعله دائماً، خصوصاً أن إسرائيل لم تتوقف عن انتهاكه منذ الساعات الأولى لإعلانه، وأغلب الظن أنها لن ترتدع مع شعورها بالنشوة والانتصار وفي لحظة الانتقال السياسي الأميركي التي سوف تستغلها إلى أبعد مدى. والمهم أيضاً أن يجري البحث فوراً بخطة دفاعيّة يُستفاد فيها من كل القدرات المتوفرة بحيث يعزّز لبنان إمكاناته الدفاعيّة التي تتيح - أقلَّه - وقف الانتهاكات الإسرائيليّة وصولاً إلى حماية البلاد، كيلا يكون «عارياً» من أي حماية عسكريّة أو سياسيّة.
احتكار الدولة اللبنانية للسلاح خطوة طبيعيّة بأي دولة في العالم، لا، بل هو من وظائف الدولة الأساسيّة التي يفترض بها أن تمارسها وحدها دون شراكة، وهذا أمر مسلّم به، ولكن إزاء «فائض القوة» الإسرائيليّة والزهو بـ«الانتصارات» التي تحققها في المنطقة، لا بد من بحث معمق في كيفيّة حماية لبنان لأن شرط احتكار السلاح، ولو أنه ضروري ولا يمكن تأخيره، ليس كافياً وحده للدفاع عن لبنان.
لذلك، فإن انتخاب الرئيس اللبناني الجديد، وعودة الانتظام إلى المؤسسات الدستوريّة، واتخاذ الخطوات الكفيلة بتثبيت وقف إطلاق النار، وإعادة الإعمار، وتركيز الاستقرار، تبدو كلها خطوات منتظرة لا تحتمل التأجيل، لعلها تساهم في النأي بلبنان عن النيران الإقليميّة التي لا يبدو أنها سوف تنطفئ قريباً.