د. عبد الحق عزوزي
أكاديمي مغربي متخصص في العلوم السياسية والقانون
TT

العودة التاريخية لترمب إلى البيت الأبيض

استمع إلى المقالة

تعد عودة الجمهوري النيويوركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض حالة استثنائية في تاريخ الرئاسيات في الولايات المتحدة الأميركية، لأن حملته الثالثة تخللتها محاولتا اغتيال وأربع لوائح اتهام وإدانة جنائية، وصار ثاني رئيس ينتخب لولايتين غير متتاليتين في تاريخ أميركا بعد الديمقراطي غروفر كليفلاند عام 1884.

صوت أكثر من 75 مليون أميركي لصالح ترمب؛ وهذا التصويت تم بعد تفكير وتقدير من هؤلاء الناخبين، لأنهم، من جهة عاشوا فترة ولايته الأولى ثم عاشوا تجربة الرئيس بايدن؛ إذا صح القول إنه في ولايته الأولى كان قد وصل إلى عرش البيت الأبيض عن طريق الصدفة، فهاته المرة يصعب قول ذلك.

ماذا وقع بالضبط؟

تمكنت كامالا هاريس من الاستفادة من عدة مميزات من قبيل أنها نجحت في جمع مليار دولار لحملتها الانتخابية، وهي سابقة من نوعها عند الديمقراطيين الأميركيين، واستطاعت مجاراة ترمب أثناء المناظرة التلفزية الوحيدة التي جمعتهما، وأن تصبح أكثر شعبية من الرئيس بايدن الذي وضعها نائبة له قبل أن يزكيها لخلافته، ولكن كل هذا لم يسعفها في حصد أصوات الناخبين الأميركيين الكافية للبقاء في البيت الأبيض؛ ونحن نعلم أن ترشيحها من قبل الرئيس بايدن كان على مضض، وبعد أن أقلع قطار النجاة الأول الذي أضحى يسوقه ويلتقط ركاباً من محطات متتالية ومختلفة، لا يسمح لأحدهم بالركوب إلا إذا كان يحمل بطاقة أو مبادئ الجمهوريين.

كل من يعرف المجتمع الأميركي من الداخل، سيعرف أن القضية الأولى والرئيسية التي شغلت بال الخاص والعام والتي أوصلت ترمب إلى البيت الأبيض هي مسألة القدرة الشرائية؛ وهي كانت أفضل في عهد الرئيس ترمب من خلفه بايدن؛ واستطاع ترمب أن يجلب إليه الطبقة المتوسطة التي سبق وأن صوتت في السابق لصالح بايدن؛ كما نجح في التنظير في مجالات تهم جيوب الأميركيين ومستقبل أولادهم في سوق الشغل والديون التي تثقل كاهل العائلات؛ واستعان في خرجاته بمقربين منه من أمثال جيمس ديفيد فانس، وروبرت كيندي جونيور وبالأخص إيلون ماسك الذي يتحدث عن قصة نجاحه الإعلام الأميركي والدولي باستمرار... وهذا الرجل هو صاحب شركة سبايس إكس؛ وهو مهندس ومخترع خارج العادة؛ ونجح ترمب في حمل صورة جميلة له على أنه يشكل نوع المستقبل الذي يتمناه لكل الأميركيين وبالأخص للأجيال الصاعدة في أميركا.

زد على ذلك أن ترمب بكارزمته استطاع أن يجسد صورة المنقذ ضد النظام القائم في مجتمع بدأ يؤمن أكثر من أي وقت مضى بالجمهورية أكثر من الديمقراطية نفسها، لأنها هي القادرة وحدها في نظرهم على جلب الرخاء الاقتصادي، وأن صاحب هاته الجمهورية يجب أن يتوفر على اليد الطولى لتحقيق هذا المبتغى، وبذلك تجاهل هؤلاء وهؤلاء القضايا القانونية التي تلاحق ترمب وأعطوا لحزبه أكثر وأجمل المقاعد في الغرفة البرلمانية الثانية.

ولا يجب أن ننسى أن ترمب نجح مرة أخرى في حمل صورة له تخالف الرؤية التقليدية لأميركا عن العالم قائمة على مبدأ «مصلحة أميركا أولاً»؛ وقد طبقها في ولايته الأولى وسيزيد من جرعاتها في هاته الولاية الثانية. عندما وصل إلى البيت الأبيض للمرة الأولى، حذر فرانسيس فوكوياما من مواقف ترمب قائلاً: «كان نظام التجارة والاستثمار المفتوح يعتمد في بقائه واستمراره - تقليدياً - على قوة الولايات المتحدة الأميركية وعلى نفوذها المهيمن، ولكن إذا ما بدأت الولايات المتحدة بالتصرف بشكل أحادي لتغيير شروط الاتفاقيات المبرمة بينها وبين الدول الأخرى فلن يتورع كثير من اللاعبين الأقوياء حول العالم عن الانتقام مما سيشعل شرارة انهيار اقتصادي شبيه بذلك الذي وقع في ثلاثينات القرن العشرين». لم يقع أي انهيار اقتصادي، وكان الرابح حسب ترمب هو أميركا، والخاسر دول ومجموعات مثل أوروبا... وهاته الأخيرة بالمناسبة ستعيش أياماً صعبة وأوقاتاً غريبة وغامضة؛ ستنظر مرة أخرى إلى هذا النظام العالمي الجديد المستند إلى قواعد رجل الأعمال ترمب، وستفهم مرة أخرى أنه يتوجب عليها عدم الذهاب بعيداً في صراعات تجارية أو اقتصادية أو سياسية مع أميركا لأنها في نهاية المطاف ستكون الخاسرة لثقل وقوة أميركا في النظام العالمي؛ وستنظر بعين الحذر والقلق إلى ما ستؤول إليه الأمور في أوكرانيا وإلى رجوع بعض من ملامح «الانعزالية» في السياسة الخارجية الأميركية؛ والتي ستتجاوز في نظري وبجرأة أدبيات «عملية الحكم» التقليدي وتتجاوز الروتين الذي تقوده إدارات الأمن والاستخبارات، وستتبنى شعار «أميركا أولاً» كقاعدة أسمى في الداخل والخارج.

أعطى الرئيس الجديد صورة له على أنه المنقذ الوحيد لجيوب الأميركيين، والمنقذ الوحيد للبيئة الأمنية الدولية وبأقل تكلفة، ولهذا وذاك صوت له الأميركيون وأعادوه إلى سلطة الحكم.