عندما ندرس لطلبتنا في الجامعات والمعاهد المتخصصة مسألة الاستراتيجية العسكرية، فلا نعني حصراً بهذا المجال ذلك التفوق والتدخل العسكري بالدبابات والطائرات والصواريخ؛ فالاحتواء الاستراتيجي يلعب في الكثير من الأحيان دوراً ريادياً من حيث المردودية والنتائج المرجوة... وهنا أستحضر للمتتبعين والمختصين وذوي القرار هاته الحكاية التاريخية المعروفة عند الذين يزاولون الكندو (طريق السيف)، وتعبر بجلاء عن نظرية الاحتواء الاستراتيجي:
«ذات يوم، دخل رجل يحمل سلاحاً وهو منهك القوى إلى مدينة صغيرة، ليبحث عن أكل وعمل.
لم يجد شيئاً يقتات منه أو يشربه.
فإذا به يجد نفسه أمام رجل مسلح يحمل سيفاً براقاً، وأعطاه موعداً في اليوم التالي ليتبارزا في وسط المدينة وبحضور الخاص والعام.
زائر المدينة استعلم عن ذلك الرجل، فوجده من أعتى المحاربين وأقواهم، وله قوة وتجربة، وهو من صناديد المحاربين بالسيوف والرمي، وشارك في الحروب وتصدى لكل الهجمات... فذهب عند معلم الفنون الحربية في المدينة... فأمره بأن يصلي على نفسه صلاة الموت؛ لأن الوقت غير كافٍ لتعلم فنون الحرب المتطورة ومجابهة المحارب، وطلب منه أن يقصد رجل دين حتى يتعلم الحكمة، فقصده ونصحه رجل الدين هذا بأنه في وقت المبارزة يجب عليه أن يبقى دون حركة أثناء القتال، وأن يغمض عينيه، وأن يقرأ صلاته المعتادة ويحرك بها شفتيه بصوت غير مرتفع... فلم يفهم الزائر شيئاً، وظن أنه قد كُتب عليه مسبقاً موت سريع، فغاظه ما سمعه من نصيحة، إلا أن رجل الدين قال له: هاته هي الوسيلة الوحيدة لتبقى على قيد الحياة.
وفي وقت المبارزة، تعجب المحارب من ردة فعل الزائر؛ رجل يغمض عينيه وجالس دون حركة يتمتم بصلوات غير مفهومة. فبدأ يفكر المحارب؛ لأنه كان ذا فكر: فالزائر إما أن يكون أحمق، أو أنه رجل انتحاري، أو أنه رجل قوي جداً.
(فإذا كان أحمق، فهذا لن يزيد من قوتي وشهرتي في شيء، وإذا كان انتحارياً، فسيكون من الحمق مساعدته على ذلك، وإذا كان قوياً جداً، فقد يودي بحياتي إلى التهلكة).
فكانت نتيجة ذلك أن الزائر استقر نهائياً وبرخاء في المدينة الصغيرة، وعاش حياة مديدة».
هاته القصة المعبرة لفلسفة سوان تزو عن فن الحرب تعبر عن العبقرية في الاستراتيجية، التي هي ليست المبارزة المباشرة... ولكن هي احتواء وتطويق بأقل تكلفة ونتائج مضمونة.
وهاته العبقرية الاستراتيجية غابت عن محركي «طوفان الأقصى»، الذين ظنوا أن مخرجات الأمور ستسفر عن إخلاء السجون الإسرائيلية من المعتقلين الفلسطينيين، وعن توغلات عسكرية إسرائيلية محتشمة، تعقبها اتفاقيات معلنة وأخرى غير معلنة لصالح «حماس». وإذا لم يكن كل هذا، فإن شرارة الحرب هاته التي أُطلقت ستتبعها في الإبان حرب إقليمية واسعة، وإن كل من يقطن في «محور الممانعة» سيعتبر الحرب حربه وسينخرط فيها بلا مماطلة، وإن إيران ستلزم الدخولَ فيها، فتتسابق القوى الدولية إلى صب الماء على النار المشتعلة؛ وبذلك تكون «حماس» قد أصبحت فاعلاً داخلياً وإقليمياً تستطيع قلب القواعد الدولية، وإرغام الأعداء والإخوة الخصوم على التعامل معها كقوة لا يُعلى عليها. كما أن هاته العبقرية الاستراتيجية غابت عن «حزب الله» الذي وجد نفسه في بحر من المآسي والاستنزافات في صفوفه، وفي مناعته، وهبّته الداخلية والإقليمية، خاصة بعد انفجار أجهزة اتصالات «البيجر» من طرف جهاز المخابرات الإسرائيلي (الموساد)، ومن خلال زرع كمية صغيرة من المتفجرات داخل الآلاف من أجهزة «البيجر» استوردها «حزب الله» قبل أشهر. وهذا يعني مما يعنيه قوة الاستخبارات الإسرائيلية، كما يعني ذلك وهن أجهزة الترقب والاستباق لدى «حزب الله» وإيران، هذا الوهن الذي مكّن من توجيه ضربات دقيقة تمثلت في اغتيالِ جنرال «حزب الله» فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، وزعيمِ «حماس» إسماعيل هنية في طهران نفسها، وإحداث شروخ في «قوةِ الرضوان» (قوات النُّخبةِ في الحزب) خلالَ اجتماعٍ لها في ضاحية بيروت الجنوبية.
وهاته الدقة الاستراتيجية تخيف إيران التي تفكر وتقدر، ثم تفكر وتقدر، ثم تفكر وتنظر قبل أن تأخذ أي قرار عسكري تواجه به إسرائيل في ظل التفوق العسكري الإسرائيلي - الأميركي، وتهالك بعض أنواع أسلحتها وطائراتها واختراق أجهزتها، وفي ظل امتلاك أميركا وإسرائيل لمقاليد الجيل الخامس من الحروب...
في ظل هاته المسلّمات، كان يمكن للاحتواء الاستراتيجي من خلال القصة التي بدأنا بها مقالتنا، ومن خلال تمثله لدى الفاعلين، أن تكون له آثار إيجابية، وما كان لكل هاته المصائب الآزفة أن تكون اليوم في منطقة تبتعد أكثر فأكثر عن السلم والأمن، وفي منطقة تزداد مشاكلها، وفيها أزمات صعبة ومتتالية، وميليشيات متعددة، وجيوش قلقة، ومسيّرات خارقة للحدود، وجواسيس من الجيل الخامس، وقوى وتحالفات لا متكافئة.