سمير عطا الله
كاتب عربي من لبنان، بدأ العمل في جريدة «النهار»، ويكتب عموده اليومي في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ 1987. أمضى نحو أربعة عقود في باريس ولندن وأميركا الشمالية. له مؤلفات في الرواية والتاريخ والسفر؛ منها «قافلة الحبر» و«جنرالات الشرق» و«يمنى» و«ليلة رأس السنة في جزيرة دوس سانتوس».
TT

12 سبتمبر

استمع إلى المقالة

بعد 11 سبتمبر (أيلول) 2001 بقليل، ذهبت إلى نيويورك متوجساً من مخاوف كثيرة أهمها استقبال موظف المطار الذي لا يحتاج إلى إشعال عود كبريت كي ينثرك من دخول نيويورك، التي يدخلها الملايين كل يوم، لا تريد أي قادم جديد، والملايين لا يفهمون ذلك. لكن رجال «القاعدة» الذين جاءوا ذلك اليوم، لم يهبطوا في الطائرات كالعادة، بل هبطوا بها على المباني، ولم ينتظروا أن يسألهم الشرطي الجاف «عن سبب زيارتهم». إنهم هنا لإحراق برجي التجارة، رمز ازدهار المدينة، وقتل أكبر عدد من الناس في طريقة لا سابق لها في مخيلات الإرهاب الجماعي.

أراد أسامة بن لادن أن يقدم عرضاً من الرعب يزرع الخوف في طائرات ومطارات العالم إلى زمن طويل. وفرح بتكبيد الغرب خسائر مالية ضخمة، كما تفاخر بن لادن ومكث في العالم فترة طويلة لا يعرف متى، وأين، سوف يُضرب أسطول مدني جديد من تجمعات بشرية أخرى.

عندما ذهبت إلى مكان البرجين، كان قد أصبح ساحة خالية. وكانت نيويورك قد استعادت الخسائر المادية التي تحدّث عنها بن لادن. لكنني شعرت بأن المشهد لن يغادرني، ولن أغادره: مشهد المكان، حيث أنا الآن، والناس تحاول الفرار بالآلاف، ولا مفر ولا فرار. ألوف الناس تهرب مرتعدة مثل قطيع أبقار خائف. لم تعد الشوارع، والجادات، تسعها ولا تعثر على أحد يساعدها، أو أحد يشرح لها ماذا يحدث.

عاد المشهد إليّ، وتصلب أمام عينيّ، ورفض أن يذهب عني. ماذا لو تجدد الآن؟ ماذا لو أن الطبيب الإنساني «أيمن الظواهري» وضع لائحة أخرى حملها موفد سري من «الملا عمر» في تورا بورا؟ أي نوع من الفضول يحملني إلى هنا؟ لقد كنت من قبل أتناول العشاء على سطح أحد البرجين، وأتمتع بمشهد الطائرات الصغيرة تمر من تحتنا كأنها ألعاب ذات محركات. ثم ذات يوم، لا أبراج ولا طائرات صغيرة، بل طائرات ركاب يحولها «محمد عطا» إلى قاتلة ومقتولة. وبين ضحايا السيد عطا، نجل صديق لنا كان مسافراً إلى عرسه في ولاية أخرى، فوجدته أمه على لائحة رحلة الطبيب.

ليس من حفلة قتل عبثية مثل ذلك العيد الدموي. قتل في الجو وموت على الأرض، وسلسلة من جنون الدماء، انتهت في سلسلة جبال تورا بورا.