فرهاد علاء الدين
مستشار العلاقات الخارجية لرئيس مجلس الوزراء العراقي
TT

السياسة الخارجية لبغداد... تحول إيجابي وواعد

استمع إلى المقالة

يشهدُ العراقُ تحولاً كبيراً في سياستِه الخارجية، حيث يركّز على السيادةِ الوطنيةِ والتكاملِ الاقتصادي والتوازن الدبلوماسي. وقد شرعتْ حكومةُ رئيسِ الوزراء محمد شياع السوداني في إعادةِ تشكيلِ دورِ العراق في المنطقة، حيث تموضعُ البلادِ كوسيط فعالٍ، وفاعلٍ يعتمد على نفسِه، وعلى مركزِه الاقتصادي.

تتمحورُ رؤيةُ نهضةِ العراق حولَ سياسةٍ بسيطةٍ ولكنَّها قوية: «العراقُ أولاً». وقد طرحَ رئيسُ الوزراءِ هذا الموضوعَ في مقالِه الذي نُشر في أبريل (نيسان) 2024 في مجلة «فورين أفيرز»، حيث أكَّد أولويةَ سيادةِ العراق ومصالحه الوطنية. وكتبَ قائلاً: «أولويتُنا هي إعادة بناءِ العراق بناءً على مصالحِه الوطنية، بدلاً من أن يكونَ ساحةَ معركةٍ للتنافسات الإقليمية». ومن هذا المنطلقِ تعكس سياسة «العراق أولاً» طموحاً أوسع لتقليل اعتماد العراق على القوى الخارجيةِ والتركيز على الاستقرارِ والنمو الداخليين.

وتعدُّ إعادةُ توجيهِ علاقاتِ العراق مع جيرانِه عاملاً محورياً في هذه الرؤية. ويهدفُ العراقُ إلى تعزيزِ التعاون الاقتصادي بدلاً من الصراع، حيث يسعى لتحقيقِ منافعَ مشتركة مع دول مثل تركيا والأردن والمملكة العربية السعودية. وقد أكَّد رئيسُ الوزراءِ أنَّ حكومتَه تبني عراقاً قادراً على الوقوفِ بمفرده، مدفوعاً بالتعاون الاقتصادي مع جيرانِنا واستثماراتٍ تعود بالنفعِ أولاً على الشعب العراقي. ويمثل هذا التحوّلُ ابتعاداً كبيراً عن الماضي، عندما كانَ العراقُ ساحةً للصراعاتِ الجيوسياسية.

وفي استعادةِ السيادة الكاملة، اتَّجه العراقُ نحوَ إنهاءِ بعثةِ الأممِ المتحدة لمساعدةِ العراق (يونامي) بحلولِ عام 2025. بالإضافةِ إلى ذلك، تعملُ الحكومةُ عن كثبٍ مع التحالفِ الدولي لمحاربةِ «داعش»؛ بهدفِ الانتقالِ من الدعم العسكري إلى علاقاتٍ ثنائيةٍ مستقرةٍ مع أعضاءِ التحالف. وتؤكّدُ هذه الجهودُ التزامَ السوداني توجيهَ العراق بعيداً عن الصراعاتِ المطولة نحو مستقبلٍ أكثرَ استقراراً واكتفاءً ذاتياً.

وخلالَ العامين الماضيين، أطلقتِ الحكومةُ مشاريع بنية تحتية عدة وبارزة، لدفع انتعاش الاقتصاد العراقي وتعزيز التكامل الإقليمي. ومن بين هذه المشاريع مبادرة «طريق التنمية»، وهو مشروعٌ طموحٌ يهدف إلى وضعِ العراق كمركزِ نقلٍ حيوي يربط بين أوروبا والخليج وآسيا. وقد وصف السوداني هذه المبادرةَ بأنَّها «جسرٌ يربط العراقَ بالعالم ويدفع نهضتَنا الاقتصادية». سيتمُّ تنفيذُ هذا المشروع، الذي يهدف إلى تسهيلِ التجارة والخدمات اللوجيستية، بالتعاون مع تركيا وقطر والإماراتِ العربية المتحدة وشركاء إقليميين آخرين.

بالإضافة إلى ذلك، خصَّصَ العراقُ نحو 3 مليارات دولار لبناءِ خطِّ أنابيبِ نفطٍ جديدٍ بين البصرة وحديثة. وسيكون هذا المشروع مركزاً شمالياً لتصدير النفط، مما يسمح للعراق بتنويعِ طرقِ تصديرِ النفط وتقليل اعتمادِه على الخليج. وتهدفُ هذه المبادرةُ إلى تعزيزِ العلاقاتِ الاقتصادية مع الدولِ المجاورة، بما في ذلك تركيا وسوريا والأردن، مع تعزيزِ تأثيرِ العراق في أسواق الطاقة الإقليمية والعالمية.

ومن التطورات البارزة الأخرى، زيادةُ اندماجِ العراق في شبكةِ الطاقة الإقليمية، من خلالِ إنشاءِ وصلاتٍ جديدةٍ لشبكة الكهرباء مع تركيا والأردن والمملكةِ العربية السعودية ودولِ مجلس التعاون الخليجي؛ إذ يسعى العراقُ إلى استقرار إمداداتِ الطاقة الداخلية وتعميقِ دوره في التعاون الإقليمي في مجال الطاقة. وتتماشَى هذه الرؤيةُ مع هدفِ العراق الأوسع المتمثلِ في تعزيز شرق أوسط مترابطٍ يعتمد على التعاون المتبادل.

وإلى جانب مبادراته الاقتصادية، تبنَّى العراقُ موقفاً دبلوماسياً متوازناً بشأن الصراعات الإقليمية. ويتَّضحُ هذا بشكلٍ خاصّ في موقفِ العراق من الصراعِ الفلسطيني - الإسرائيلي. وكانَ السوداني صريحاً في دعمِه للقضية الفلسطينية مع الدعوةِ إلى الحلولِ السياسية والدبلوماسية. ففي خطابِه خلال القمة الأولى في القاهرة في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أكَّدَ موقفَ العراق ضد ما وصفه بالعدوان من قبل القوات المحتلة. وأعادَ تأكيد دعم العراقِ الطويلِ الأمد لفلسطينَ من خلال المساعداتِ والجهود الدبلوماسية، داعياً إلى وقفٍ فوري لإطلاق النار، وفتحِ الحدودِ للسماح بوصول المساعداتِ الإنسانية، وإنشاءِ صندوقٍ لإعادة إعمار غزة، وحق الشعب الفلسطيني في تقريرِ مصيره وإقامة دولته.

وفي الوقت نفسه، يسمح للعراق موقعه الجيوسياسي الفريد - حيث يحتفظ بعلاقات قوية مع إيران وتركيا ودول الخليج والقوى الغربية - بأن يكونَ وسيطاً في النزاعاتِ الإقليمية. من خلالِ الاستفادة من هذه العلاقات. وعمل العراقُ على نزعِ فتيل الأزماتِ المحتملة قبل أن تتفاقم. وقد شدَّد السوداني على ذلك قائلاً: «يجب أن يكونَ العراق وسيطاً وليس مشاركاً في الصراعات التي لا تخدم مصالحَنا الوطنية». ويعكس هذا النهجُ طموحَ العراق الأوسعَ لاستعادةِ السيطرة على سياستِه الخارجية، بعيداً عن التأثيرات الخارجية.

وتمثل رؤيةُ العراقِ اليوم تناقضاً صارخاً مع سياساته السابقة، عندما كانَ البلدُ غالباً ما يكون في قلبِ الصراعات الإقليمية. لعقودٍ عدة، قُوّضتِ السيادةُ العراقية بسببِ الانقساماتِ الطائفية والتدخلات الأجنبية، ممَّا حدَّ من قدرة العراق على العمل بشكل مستقل على المسرح العالمي. ومع ذلك، تشير سياسةُ «العراق أولاً» إلى تحوّلٍ نحوَ مستقبل يتشكَّلُ فيه مصيرُ العراقِ بيد مواطنيه.

تحوُّلٌ مهمٌّ آخر في السياسة هو المتابعة الدقيقة للوعود والالتزاماتِ التي قطعها العراق للدول الأخرى. ففي الماضي، غالباً ما تعرَّض العراقُ لانتقاداتٍ بسبب عدم المتابعة للاتفاقيات أو الوعود. ولكنَّ هذه الإدارةَ كانت دقيقةً في ضمان الوفاءِ بالالتزامات. ويرى شركاءُ العراق الآن أنَّ العراقَ شريكٌ موثوقٌ وجاد، حيث يشهدون ليسَ فقط توقيعَ الاتفاقيات بل أيضاً تنفيذها الفعلي. وساعدَ هذا التركيز على المتابعةِ في تحويل سمعةِ العراق من بلدِ الوعود غير المحققة إلى شريكٍ موثوقٍ به في الشؤون الإقليمية والعالمية.

على الصعيد الداخلي، ركَّز برنامجُ الحكومةِ على الإصلاحات التي تهدف إلى مكافحة الفساد وتحسين الحوكمة، وإعادة بناء البنية التحتية. وتهدفُ هذه الجهودُ إلى خلق دولة أكثر مرونة، قادرة على فرض تأثيرها في المنطقة. ويمثل هذا التركيزُ الداخلي تحولاً كبيراً في الأولويات، مع تأكيد إعادة بناءِ العراق على حساب التدخلات الخارجية في الماضي.

أخيراً، وفي مقالٍ سابق قلت إنَّ «العراق الآن على وشك لعبِ الدور المحوري الذي قُدر له أن يلعبَه في المنطقة»، وما زلت أؤمن بأنَّ العراق يمر بمرحلة تحول قد تعيد تشكيل دوره في الشرق الأوسط. وتعكس سياسة «العراق أولاً» التزاماً بالسيادة والتكامل الاقتصادي والتوازن الدبلوماسي، ممَّا يجعل العراقَ قوة استقرارٍ محتملة في المنطقة.

ومن خلال قيادة مبادرات مثل طريق التنمية والسعي لتحقيق سياسة خارجية مستقلة، بدأ العراق في فرض نفسه لاعباً رئيسياً في الجيوسياسة الإقليمية. ويجب أن يحدد العراقيون أنفسهم مستقبل العراق، وهذه الرؤية المتمثلة في السيادة والتكامل قد تمهد الطريق لعصر جديد من النمو والاستقرار، مما يسمح للعراق بالظهور قائداً في الدبلوماسية الإقليمية ومركزاً للتنمية الاقتصادية.