إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

شيشة في الزنزانة

استمع إلى المقالة

«أنتم مجانين، لكنني سأريكم أنني أكثر جنوناً. سأجبركم على احترامي، وستدفعون الثمن. هل تريدون رؤية كلبيّتي»؟ هذا جزء بسيط من التسجيلات الهاتفية للمطلوب رقم واحد في فرنسا. اسمه محمد عمرة، ولقبه «الذبابة»، السن 30 عاماً، تاجر مخدرات من أصل جزائري. محتجز منذ الصيف الماضي بتهمة قتل منافس له في سوق الممنوعات.

يقول عن نفسه إنه كلبيّ؛ أي متوحّش، غير أنه اشتهر بالخيانة لا بوفاء الكلاب. تنقلوا به بين 3 مراكز للاحتجاز، وانتهى في سجن «درو»، في النورماندي. ما كان لاسم عمرة أن يصبح على كل شفة ولسان لولا العملية المثيرة التي جرت منتصف الشهر الحالي لتحريره من الحبس. كان في طريقه إلى المحكمة حين اعترضت سيارةٌ حافلةَ السجن الصغيرةَ. نزل ملثمون، وفتحوا النار، وأخذوه من بين سجّانيه، ومضوا به إلى جهة مجهولة. مات في العملية حارسان فرنسيان، أحدهما أب لطفلين، وتنتظر زوجة الثاني ولادة طفلها، وحتى كتابة هذه السطور لم يجرِ القبض على الهارب. الكل يتابع تفاصيل البحث عنه ومحاولات اقتفاء أثره.

كانت إدارة السجن قد زرعت جهازاً للتنصت في زنزانة عمرة. كشفت التسجيلات أنه استخدم بطاقات ائتمان مدفوعة مسبقاً وهواتف نقالة من أحدث الأنواع، خلافاً للتعليمات. ومن خلال الهاتف واصل إدارة عصابات لبيع المخدرات تنشط ما بين مرسيليا وكولومبيا. يختطف الرهائن، ويطلب الفدى، وقد اشترى لأزلامه أسلحة ورشاشات متطورة. كل ذلك وهو في الزنزانة. يطلب أنواع الوجبات «ديلفري» في أي وقت من النهار والليل، ويوصلها له سعاة تدربوا على رمي رزم الطعام من فوق الأسوار، ويحصل على الحشيش بفضل الرشوة، وفوق هذا شيشة يتمتع بأنفاسها في الأمسيات.

حين رفضت إدارة السجن طلباته بالسماح لصديقاته بزيارته، دفع لإحداهن ثمن عملية تجميل لتغيير ملامحها. كانت تتردد عليه مستخدمة هوية شقيقته. توصل له المعلومات، وتتلقى الأوامر وتبادله ما يتيسّر من الجنس. عاش محمد عمرة فترة احتجازه يأمر وينهي ويهدد من يتمرد عليه. يخاف السجانون دخول زنزانته. سيرته تبعث القشعريرة في نفوس العامة، وتزرع لديهم الخشية من المهاجرين العرب.

لا يخشى القوم صاحب مطعم الكباب التركي جلال، ولا الممرضة المغربية مُنية، ولا الطبيب السوري خليل. إن أمثال جلال ومنية وخليل بمئات الآلاف في مختلف المهن، لكن محمد عمرة يشطب، وحده، على جهود كل هؤلاء وعرقهم. يدمغ بوصمته القاتمة كفاحهم. كيف يستقوي أمثاله على زمانهم؟ لا بد أن هناك من يتواطأ معهم من أهل الدار، ويمنحهم الفرصة لركوب القانون أرجوحة.

يعيش 7 ملايين مسلم في هذا البلد بسلام. أغلبهم جاء لطلب الرزق والأمان. يشتغلون بشرف، ويكدّون في أصعب الأعمال لكي يطعموا عائلاتهم لقمة نظيفة، لكن هناك من يبصق، عن جهل أو عن رعونة، في الطبق. هؤلاء القلة هم من يشوّه سمعة الأغلبية، ويهدد وجودها. يرتفع منسوب العَدَاء للمهاجرين، سنة بعد سنة، في معظم بلاد أوروبا. تشتدّ سواعد اليمين العنصري، ويحصد ممثلوه المقاعد في البرلمانات. تحوّلت صفة «يميني متطرف» من شتيمة إلى مدعاة للفخر. وفيما يخص الانتخابات المقبلة للبرلمان الأوروبي، فإنَّ التوقعات تمنح الأرجحية لحزب مارين لوبان اليميني في فرنسا. تذهب سدى دعوات إمام مسجد باريس الكبير وتحذيراته من التصويت لحزبها في الانتخابات التي تجري بعد أسبوعين.