عبدالله بن بجاد العتيبي
كاتب سعودي مهتم بالحركات الإسلامية والتغيرات في الدول العربية، وله عدة مؤلفات حول ذلك منها «ضد الربيع العربي» وله أبحاث منها: «القابلية للعنف والقيم البدوية»، نشر في 2006. و«السرورية» 2007. و«الولاء والبراء، آيديولوجية المعارضة السياسية في الإسلام» 2007. و«الإخوان المسلمون والسعودية الهجرة والعلاقة» 2010. قدم عدداً من الأوراق البحثية للعديد من مراكز الدراسات والصحف. شارك في العديد من المؤتمرات والندوات، وهو خريج جامعة المقاصد في بيروت في تخصص الدراسات الإسلامية.
TT

احتجاجات الجامعات... أميركا واليسار والإسلاميون

استمع إلى المقالة

الحركات الطلابية داخل الجامعات الأميركية كانت على الدوام تعبر عن التوجهات السياسية الجماعية أو التيارات والحركات المنظمة الجديدة، كلٌ في حينه، ويمكن بسهولة للقارئ المهتم أن يعرف أن «اليسار» بمختلف توجهاته، وخاصة «اليسار الليبرالي»، كما أنه يسيطر على الحزب الديمقراطي، منتشر بكثافة في الجامعات والأكاديميات، وهو قويٌّ في كثيرٍ من المجالات الأخرى، وخاصة الفنون والدراما، وما «هوليوود» إلا مجرد مثال، وهو شديد التأثير في كثير من الحركات الجديدة، مثل «مي تو» النسائية أو «حياة السود مهمة» وغيرهما كثير.

هذه حقيقة واقعية، وحقيقةٌ أخرى توازيها، وهي أن اليسار العالمي بطبيعته معادٍ ويركز على أنظمة معينة على مدى عقودٍ من الزمن، هذا لا جدال فيه، ومن هذا اليسار العالمي «اليسار الغربي» عموماً، و«اليسار الأميركي» تحديداً، وموقف اليسار هذا لم يتغير كثيراً، وإن تطور باتجاهاتٍ فرعيةٍ، واليسار نفسه على مدى عقودٍ من الزمن - أيضاً - كان دائماً مؤيداً للقضية الفلسطينية ضد إسرائيل، وهذا ليس جديداً، وما ينبغي أن تفهمه الشعوب في العالم العربي اليوم هو أن القضية الفلسطينية ليست شيكاً على بياض، تبرئ ساحة كل عدوٍ وتطهّر صفحة كل خصمٍ، وإلا لكانت ارتكابات النظام الإيراني ضد الشعوب العربية قتلاً واحتلالاً مبررةً ما دامت ترفع شعار القضية الفلسطينية.

لا يجادل عاقلٌ في قوة «اليسار الأميركي»، وخاصة «اليسار الليبرالي»، الذي بات منذ سنواتٍ طويلةٍ يسيطر على كثير من المجالات والمؤسسات العامة والخاصة، ويشكل التيار الأقوى في «الحزب الديمقراطي»، ولكن ما شأن «الإسلاميين» أو حركات الإسلام السياسي ورموزها في أميركا؟ وهل هذا مجرد هوسٍ بهذه الجماعات وتأثيرها، وتضخيمٌ لدورها، أم أن المعلومات تثبت بالعلم حقيقة مخفيةً؟ ثم إن كان لهم حضورٌ مؤثرٌ في أميركا، فما علاقتهم باليسار الليبرالي؟ هذه أسئلة محقةٌ، وفي الإجابات عنها ما يدفع الإنسان لإعادة التفكير في الأحداث المعاصرة وفهم سياسات أوباما تجاه المنطقة وسياسات بايدن وإدارته والتيارات التي تقف خلف هذا كله.

منذ الأربعينات والخمسينات كان سعيد رمضان يتنقل في أوروبا لإنشاء فروع لجماعة «الإخوان المسلمين» فيها، وقد وصل إلى أميركا وتواصل مع بعض المسلمين هناك، وفي الستينات تزايدت هجرة عناصر جماعة «الإخوان المسلمين» إلى أميركا، وازدادوا حضوراً وتنظيماً في السبعينات، وكانت لهم رموز، مثل محمد فتحي عثمان وحسان حتحوت وسيد دسوقي وغيرهم كثير، وأقاموا تجمعات ومنظمات وحركاتٍ متعددة، وفي بيئة نشطة ومتطورة وحرياتٍ دستورية راسخة استطاعوا الحصول على مكاسب كبيرةٍ، واستطاعوا الحصول على دعمٍ من بعض الدول العربية على اختلافات في الزمان والمكان والجهة المدعومة تحديداً، وكانت للمساجد والمراكز الثقافية والاجتماعية المرتبطة بها أدوار متعددة، ولئن كان التفريق بين «المسلم» و«الإسلاموي» صعباً في عالمنا العربي، فهو أكثر تعقيداً في أميركا، وفي كتاب المسبار «المسلمون في أميركا» الصادر عام 2013 تفاصيل يمكن الرجوع إليها.

وبعيداً عن كثيرٍ من التواريخ والتفاصيل، يكفي استحضار بعض الأسماء الحديثة والحاضرة في الذاكرة القريبة، فعلاقات أوباما مع إدوارد سعيد الناقد اليساري المعروف مشهورة، وكذلك مع رشيد الخالدي المشرف على كرسي سعيد في جامعة كولومبيا بنيويورك، ثم هوما عابدين، وعملها في مكتب هيلاري كلينتون عندما كانت وزيرة للخارجية، في تفاصيل كثيرةٍ أيضاً، والجيل الثاني والثالث من «الإخوان المسلمين» في أميركا استطاع اختراق مكاتب أعضاء في الكونغرس الأميركي، واستطاع التأثير على شخصيات أميركية فاعلة، والأموال التي تدفقت من إحدى الدول العربية للتأثير على رجالات الكونغرس ووزراء مهمين في إدارات أميركية متعاقبة راح نصيب وافر منها لزرع «الإخوان» وتمكينهم، وهذا كله على الرغم من الاختصار والتكثيف، يؤكد أن ظهور أعلام «حماس» و«حزب الله اللبناني» في احتجاجات الطلاب في الجامعات الأميركية ليس عفوَ الخاطر، ولا يدخل في نصرة المظلوم - فقط - ولا التعاطف الإنساني المجرد من السياسة.

لحظة «الربيع العربي» الأسود قبل عقدٍ ونيفٍ كانت لحظةً كاشفةً عن حجم التحالف بين «حركات الإسلام السياسي» و«اليسار الليبرالي» الأميركي، وأنَّ الرئيس الأميركي حينها باراك أوباما كان يسعى بوعيٍ لإسقاط الأنظمة العربية وتسليمها لجماعة «الإخوان المسلمين» وجماعات الإسلام السياسي الأخرى، هذا في حدثٍ ضخمٍ لم يزل حاضراً في الذاكرة بعيداً عن رصد التاريخ الطويل لعلاقة «حركات الإسلام السياسي» بالحركات اليسارية بشكل عامٍ، إن كان على مستوى «المفاهيم» و«الأفكار» وبناء «آيديولوجيات» متماسكة، وإن كان على مستوى العمل على صياغة شعارات التحريض وخطابات التجييش، وإن كان على مستوى «بناء التنظيمات» و«آليات التجنيد» في تفاصيل كثيرةٍ ومتشعبة.

أي صوتٍ مؤيدٍ للقضية الفلسطينية في الشرق أو الغرب يعدّ مكسباً للقضية حين يخلو من توظيفها لأهدافٍ أخرى وحين يستحضر هموم ورغبات الشعب الفلسطيني نفسه، ولكن السبيل إلى ذلك معروفٌ فلسطينياً وعربياً وفي العالم الإسلامي، ففلسطينياً يتمثل في «السلطة الفلسطينية» الممثلة لـ«منظمة التحرير»، وعربياً يتمثل في «المبادرة العربية» الحاصلة على الإجماع العربي، التي تعدّ امتداداً لمعاهدات واتفاقيات السلام العربية الإسرائيلية القائمة والدول الإسلامية خلف الدول العربية، ما عدا من تمتلك مشاريع تسعى لاستغلال القضية الفلسطينية كشعارٍ لأهداف لا علاقة لها بفلسطين وشعبها.

إبان الربيع العربي المشؤوم، كانت الشعارات تتمثل في «الديمقراطية» و«حقوق الإنسان» و«حرية التعبير» ونحوها، ثم اكتشف الجميع أنها كانت شعارات خادعة لمفاهيم أصولية دمويةٍ تختبئ خلفها «الثيوقراطية» والديكتاتورية الدينية والعنف الإرهابي، والشعارات التي ترفع اليوم باسم «القضية الفلسطينية» و«حقوق الفلسطينيين» هي شعاراتٌ محقةٌ، ولكنها تخفي غاياتٍ لتياراتٍ وتوجهاتٍ لا تريد الخير، لا لفلسطين، ولا لداعميها الكبار في الدول العربية.

السعودية وقفت بقوةٍ مع الشعب الفلسطيني في غزة منذ اندلاع الأحداث في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهي ما زالت مصرةً على موقفها المبدئي، وهي تحقق مكاسب مهمة في تفاوضها الطويل مع الإدارة الأميركية، وبقي مسار القضية الفلسطينية جزءاً من هذا العملية التفاوضية الشاقة.

أخيراً، الجهل علاجه العلم ونقص المعرفة، وانحراف التحليل دواؤه الوعي في لحظةٍ، الناس فيها أحوج ما يكونون للعلم والمعرفة والوعي.