قال أبو عبادة البحتري: كنت في حداثتي أروم الشعر، وكنت أرجع فيه إلى طبع، ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه، ووجوه اقتضائه، حتى قصدت أبا تمام؛ فانقطعت فيه إليه، واتكلت في تعريفه عليه، فكان أول ما قال لي: «يا أبا عبادة، تخير الأوقات وأنت قليل الهموم، صفر من الغموم».
وتجاوزُ أبي الطيب عملٌ غير طيب، وكان له مع الهَمِّ صولات وجولات، فهو القائل:
أَفاضِلُ الناسِ أَغراضٌ لِذا الزَمَنِ
يَخلو مِنَ الهَمِّ أَخلاهُم مِنَ الفِطَنِ
عدّ المتنبي أهل الفضل والصدارة في الناس، مقصداً من مقاصد الزمن، يصيبهم بنوائبه، ويرميهم بالمحن، ويترصد لهم بالإحن، ويغشاهم بالمصائب، فيصبحوا من المحزونين بما حلَّ بهم، غير أنه ربط بين فضل هؤلاء وإصابتهم بالهَّمِ، حتى عَدَّ خَلِيَّ الهَّمِ فيهم، أخلاهم من الفطنة والجدارة بعليات الأمور!
إذ يرى أبو الطيب أن الهَمَّ من متلازمات أهل العلياء، وإذا لم يكن لدى المرء همٌّ، دَلَّ ذلك على صغاره، وتأكيد ذلك أن الهِمَّة مشتقة من الهم، فمن لا هم عنده، لا همة لديه.
هكذا، صنَّف المتنبي الهَمَّ بعدّه، ميزة، ولو جزئياً.
في الحديث أن النبي، (صلى الله عليه وسلم)، كان كثيراً ما يقول: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن». وهو القائل عليه السلام: «ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا حزن حتى الهم يهمه إلا كفر به من سيئاته».
فمورد الهَمِّ في كل ما يصيب النفوس، ويختلج الصدور، ويقترن بالحزن، وقلق الحاضر والمستقبل، والهم في الدين والدنيا، لا يملك الإنسان إلا أن يحاط به منهما، لا يدفعه عنه إلا الله عز وجل، ولقد وجدنا أن مالئ الدنيا وشاغل الناس، كان مصاباً بِهَّمٍ يعاوده مراراً وتكراراً، هو هَمُّ الخوف من المستقبل والمصير، في المتقلب والمثوى، وطالما سأل المتنبي نفسه:
أَمَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا كَرِيمٌ
تَزُولُ بِهِ عَنِ القَلْبِ الهُمُومُ؟
وقُتل رحمه الله ولم يجد جواباً! جاشت بقلبه الهموم مستمرة مقلقة له كل القلق، وقد بلغت الهموم في قلب شاعرنا، حد الاستواء، فقال في بعض لواعجه:
أَلَا لا أُرى الأَحْدَاثَ حَمْداً ولَا ذَمّا
فَمَا بَطْشُهَا جَهْلاً ولَا كَفّهَا حِلْمَا
فالأحداث التي صنعت همومه، يتساوى عنده مدحها وذمها، وفي جهلها بما بطشت، وحلمها عما كفت عنه.
لقد شكلت الهموم روحه القلقة، مع الحدة التي مايزت تعامل معاصريه معه، من ممدوحين ومن عامة، لسوء فهمهم له، وهو ما أصابه باكتئاب حتى قال:
والهَجْرُ أقْتَلُ لي مِمَّنْ أُراقِبُهُ
أنَا الغَريقُ فَما خَوفي مِنَ البَلَلِ
فجعل الهجر أقتل من همه بمراقبة نفسه، ووصف نفسه بالغريق، الذي ابتلعه الماء في أحشائه، ولذلك فهو لا يخشى البلل بالهموم بعد الغرق!
لذلك قال:
أَتَظْعَنُ يا قَلْبُ مَعْ مَن ظَعَنْ
حَبيبينِ أنْدُبُ نفسي إذَنْ
فارتحاله إثر الحبيب، أوجب عليه ندب نفسه، ليستوي الظعن المرتحل بمن فارقه، وبهموم نفسه وفق معنى البيت، والمتنبي (غفر الله له)، وصل به تفاقُم الهموم، إلى حال يصف فيه مجازاً، بعض مهجويه، ولكن بما يجسده هو، قائلاً:
كَرِيشَةٍ بِمَهَبِّ الرِّيحِ سَاقِطَةٍ
لَا تَسْتَقِرُّ على حَالٍ مِنَ القَلَقِ
فكأني أجده نسي نفسه، وهو يهجو المهجو، فوصف نفسه وهَمَّه وقلقه، وإلا فالبيت ينوب عن بقية الأبيات، وهو بمذهبه في وصف هَمِّه، أليق به من موضعه في الهجاء.
كان الهم عند أبي الطيب، بعض ما حداه ليقول متوجعاً:
وأَسْرِي في ظَلَامِ الليلِ وحْدِي
كَأَنِّي مِنهُ في قَمَرٍ مُنِيرِ
فسريانه وحيداً، تعبير عن هَمِّه بملمات نفسه، التواقة لمواجهة ومجابهة مع همومه، التي تضيق من حاله، وطلبه لمآله.
لا يزال لهموم أبي الطيب بقية من عساكر هموم، لعلنا نعود إليها لاحقاً، ونقول لنا وله، ما قال الشاعر الأموي، هدبة بن الخشرم:
عَسَى الهَمُّ الذي أَمسَيتُ فيهِ
يَكُونُ وراءهُ فَرَجٌ قريبُ
إلا إذا عدّ الفرج، لخليِّ الفطنِ!