مجزرة «الخبز» في غزة الأسبوع الماضي هي النسخة الدموية لخطة «اليوم التالي»، بعد وقف الحرب التي أطلقها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وخلاصتها محافظة إسرائيل على حرية العمل في القطاع دون حد زمني، وإقامة منطقة أمنية داخله على الحدود معها. نتنياهو يكرر نفسه ويدوّر سياساته في خطته هذه التي تشكل قمة فكره المراوغ الذي يستخدمه منذ أكثر من عشر سنوات في «إدارة» الصراع، وأدى لتهميش السلطة الفلسطينية وتسهيل قيام «حماس»، التي تشاركه كراهيته لحل الدولتين، وتعزيز حكمها في غزة، وإطلاق العنان لحركة الاستيطان بالضفة الغربية جاعلاً قيام الدولة الفلسطينية مستحيلاً. وسط المفاوضات الجارية للتوصل إلى هدنة، حديثه عن عزمه الاحتفاظ بوجود أمني إسرائيلي طويل الأمد في غزة يغذي النار تحت الرماد، ويقحم بلاده في محاربة مقاومة تقودها «حماس» تحاكي مقاومة «حزب الله» قبل انسحاب بلاده من المنطقة المحتلة في جنوب لبنان سنة 2000. كل ذلك للهرب من حل الدولتين، وتحقيق رغبة دفينة في إطالة أمد القتال أطول فترة ممكنة قد تسمح له بتوسيعه ليطال «حزب الله» في لبنان وربما أبعد.
حجج ومبررات نتنياهو وحلفائه من اليمين المتشدد لرفض الدولة الفلسطينية والمضي بالتوسع الاستيطاني كثيرة وماكرة وتتعدى العنصرية والتشدد الديني، يستند أبرزها إلى المخاطر التي نجمت عن الانسحابات السلمية، وعدم الثقة بنيات الطرف الآخر تجاه حل الدولتين. سنة 1981 اغتيل أنور السادات انتقاماً لتوقيعه معاهدة السلام مع إسرائيل، الانتفاضة الثانية اندلعت بعد انهيار محادثات السلام في كامب ديفيد عام 2000، التي أعادت للفلسطينيين 97 في المائة من الضفة الغربية، سنة 2000 أيضا أدى الانسحاب من جنوب لبنان إلى استباحته من قبل «حزب الله»، الذي خزّن آلاف الصواريخ في تهديد مباشر لإسرائيل، سنة 2005 تخلت إسرائيل عن غزة لصالح السلطة الفلسطينية، لكن بعدها بسنتين انقلبت «حماس» عليها، وأمعنت بتخزين السلاح وبناء الأنفاق لمحاربة إسرائيل.
إلى هذا، ثمة أصوات فلسطينية وعربية متشددة ترفض بالأساس حل الدولتين، وعلى رأسها «حماس» ومحور إيران الممانع، بينما يشكك آخرون بطبيعة الدولة الفلسطينية العتيدة وحدودها ومدى سيادتها وقدراتها، إضافة لموضوع القدس وحق عودة اللاجئين والتسلح وغيره الكثير، عادّين الفكرة برمتها إما مرفوضة عقائدياً وإما غير قابلة للعيش، ولا تؤمن الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
النتيجة أن رفض الدولة الفلسطينية ضمن حل الدولتين لا يقتصر على الإسرائيليين، بل يطال بعض الفلسطينيين والعرب دون طرح بدائل واقعية. مثلاً حل «حماس» وهو تدمير إسرائيل، وحل اليمين الإسرائيلي المتطرف هو ضم الضفة الغربية، وتفكيك السلطة الفلسطينية، وترحيل الفلسطينيين إلى دول أخرى. أما حل الدولة ثنائية القومية، فهي تنهي وضع إسرائيل بوصفها دولة يهودية؛ إذ يصبح فيها اليهود أقلية. هذه البدائل لن تحل الصراع، وتعني البقاء في نفق الحروب لسنوات مقبلة.
على سبيل التذكير وللإفادة من أخطاء الماضي، يعود حل الدولتين لعام 1937، عندما اقترحت لجنة بريطانية تقسيم أراضي الانتداب البريطاني إلى دولتين. وبعد عشر سنوات، صدر القرار الأممي رقم 181، الذي اقترح دولتين لشعبين: قبله اليهود ورفضه الفلسطينيون والعرب. سنة 1993، وضع اتفاق أوسلو الأساس لعملية تهدف في النهاية لإنشاء دولة فلسطينية، لكنه لم يطبّق. عام 2000 فشلت محادثات كامب ديفيد لعدم استعداد الطرفين القبول بحل وسط بشأن القدس وحق العودة للاجئين. عام 2002 أطلقت القمة العربية من بيروت مبادرة السلام العربية، وتلتها فوراً العمليات الانتحارية الفلسطينية داخل إسرائيل بتشجيع من المحور الإيراني - السوري، وبقي الوضع على حاله حتى وصلنا إلى أقصى درجات العنف في حرب غزة 2023.
لا يمكن تحميل جهة واحدة مسؤولية الفشل في تسوية الصراع. فعلى الرغم من ممارسات إسرائيل التوسعية والعنصرية والوحشية بحق الفلسطينيين، تقتضي الموضوعية الاعتراف أن هناك جانباً من التطرف العربي عامة والفلسطيني خاصة لم يترك مبادرة لتسوية متاحة ومعقولة إلا ورفضها أو عرقلها. من دون احتساب رفض التقسيم سنة 1948 والهروب الفلسطيني من تسوية كامب ديفيد سنة 2000، تبقى كامل المسؤولية أولاً على إسرائيل، وثانياً على جبهات الرفض العربية - الفلسطينية العنوان، والسورية أو العراقية أو الليبية أو الجزائرية المضمون، ومحور الممانعة في العقدين الأخيرين، ومن الظلم أن تحمّل إسرائيل الشعب الفلسطيني المقهور والمشتت مآلات هذه المأساة المستمرة منذ عقود.
وإذا صحت حجج ومبررات نتنياهو الآنفة الذكر، يعد معارضو نتنياهو وسياساته أن ما وصلت إليه أحوال الضفة وغزة وجنوب لبنان هو مسؤولية سياسات إسرائيل خلال العشرين سنة الماضية، لا سيما منذ اغتيال إسحاق رابين وصعود نجم نتنياهو سنة 1996، والقفزة الصاروخية المذهلة لليمين المتطرف الذي قطّع أوصال الضفة الغربية، وجعل عدد سكان المستوطنات يتجاوز السبعمائة ألف، وسهّل سيطرة «حماس» على غزة لتغذية حال الانقسام الفلسطيني، وغاب كلياً عن التمدد الإيراني عبر «حزب الله» إلى لبنان منذ عام 1983. وتوجت هذه السياسات بالغياب التام والملتبس عن الحرب السورية التي أدت إلى شبه احتلال إيراني استدعى لحمايته دعماً روسياً شاركه في تقاسم السيطرة على هذا البلد البائس، ليصبح الخزان الرئيس للمقاومة ضد إسرائيل، ولتصبح إيران عميدة الممانعين على حدود إسرائيل الشمالية.
كل ذلك يعيدنا إلى عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) التي كشفت مسؤولية وأدوار إيران خلال العقود الأخيرة في تمكين حركات المقاومة في غزة وجنوب لبنان والعراق واليمن، بينما لا تزال غالبية سياسات الدول بما فيها الولايات المتحدة تتجه لاحتواء أو الاقتصاص من الفرع من دون الخوض بأساس المشكلة، أي الشروع في مفاوضات التسوية الشاملة للنزاع وبالتوازي، معاقبة إيران مباشرة لردعها عن استعمال أذرعها في المنطقة.
الشيء الإيجابي لعملية «طوفان الأقصى» والحرب الوحشية في غزة أنهما أعادا إلى الحياة حل الدولتين بعد أن عدّه كثيرون فكرة ساذجة وميؤوساً منها، ودفعت الغرب والولايات المتحدة خاصة على تحميل إيران مباشرة مسؤولية زعزعة الاستقرار.
إذا قُدر للهدنة أن تتحقق لتتيح مساحة لمزيد من التفاوض، وتُقدم الإدارة الأميركية قبل الصيف على لعب دور أكثر ثباتاً وجرأة على الرغم من حليف إسرائيلي منقسم أو متردد أو مهووس بالحرب وشريك فلسطيني غير فعال، تكون المنطقة على الطريق الصحيحة نحو السلام الدائم.