علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

رد مهلهل على لويس عوض

استمع إلى المقالة

الخطأ الثاني في تعليل رجاء النقاش لظهور «إسلاميات» محمد حسين هيكل وطه حسين وعباس العقاد، للرد على لويس عوض، هو ما سمّاه تيار «التطرف الديني العنيف».

في المدة الزمنية التي حددها بأنها كانت سبباً في ظهور «إسلاميات» أولئك، وهي «الثلث الأول من القرن العشرين وحتى سنة 1935» لم يكن في مصر تيار يُنعت بهذا النعت. في أوائل هذا القرن، تحديداً عام 1906، اتهم المعتمد البريطاني كرومر في تقريره السنوي المصريين بـ«التعصب الديني»، استناداً إلى «حادثة الهماميل» بالإسكندرية، التي حصلت عام 1905، واستناداً إلى حادثة العقبة التي أيد فيها مصطفى كامل وجريدته، جريدة «اللواء» عام 1906 في النزاع الحدودي على طابا بين الدولة العثمانية وبين الحكومة المصرية، حق تركيا فيها. وفي هذا النزاع أو الصراع على طابا أرغمت إنجلترا التي تحتل مصر الأتراك على الجلاء عن طابا في 14 مايو (أيار) 1906.

وترددت تهمة «التعصب الديني» في جمعية «مجتمع الإصلاح القبطي» التي أنشأها أخنوخ فانوس عام 1908، وفي صحيفتي «الوطن» و«مصر» القبطيتين إزاء المصريين المسلمين على نحو عام، وإزاء «الحزب الوطني» الذي أنشأه مصطفى كامل عام 1907 على نحو خاص. وترددت أيضاً هذه التهمة حين أقدم إبراهيم ناصيف الورداني العضو الشاب في «الحزب الوطني» على اغتيال رئيس الحكومة بطرس غالي في 20 فبراير (شباط) 1910. وقد ثبت بعد التحقيق أنه اغتاله لأسباب سياسية وطنية وليس لسبب ديني طائفي.

إن كان رجاء النقاش يقصد بتيار «التطرف الديني العنيف»، «الحزب الوطني»، حزب مصطفى كامل ومحمد فريد، بكلامه الغامض وغير الدقيق من الناحية التاريخية الصرفة في تاريخ التيارات والأحزاب في مصر، فطه حسين الطالب الأزهري في السنوات التي أشير إليها كان تلميذاً للشيخ عبد العزيز جاويش، القلم القوي والبارع في «الحزب الوطني»، والمتهم عند الأقباط بإثارة الفتنة الدينية، خصوصاً في مقاله العنيف على الأقباط «الإسلام غريب في بلاده»، ردّاً على مقال عنيف ضد تاريخ الإسلام كتبه فريد كامل في جريدة «الوطن» القبطية، وكان عنوانه «الإنسانية تتعذب».

طه حسين في تلك السنوات المشار إليها كان يكتب في صحف «الحزب الوطني»، ومن المتمثلين لفكرة «الحزب الوطني» السياسية الأساسية: الجلاء والاستقلال التام. وثالث الثلاثة عباس العقاد كان حينها يكتب في صحيفة «الدستور» لصاحبها محمد فريد وجدي، عضو «الحزب الوطني»، مقالات للرد على متشددي الأقباط ومغاليهم.

الخطأ الثالث، التيار الفكري الذي قال رجاء النقاش إنه يمكن أن نسميه تيار «التطرف الديني العنيف»، الذي رأى أن نشأته متأثرة بعوامل كثيرة، ذكر منها «الدعوة إلى ربط مصر بالخلافة العثمانية التي أسقطها مصطفى كمال سنة 1924» و«اعتبار الاحتلال الإنجليزي لمصر منذ سنة 1882 نوعاً من العدوان (الصليبي) الجديد على المسلمين». فإن كان يقصد بإيماءته هذه «الحزب الوطني»، فهذا الحزب تأسس قبل إلغاء الخلافة بما يدنو من الثمانية عشر عاماً. وإن كان يقصد بها تيار «الجامعة الإسلامية» فهذا التيار له حضور قوي وفاعل في مصر قبل ربع قرن من بداية القرن العشرين، وقبل بضع سنوات من الاحتلال البريطاني. وإن كان يقصد «الإخوان المسلمين» فإن «الإخوان المسلمين» إلى العام الذي حدد نهايته في تحقيبه الزمني، وهو عام 1935، لم يبدر منهم أدنى سلوك وأقل تنظير يشي بـ«تطرف ديني عنيف».

وغني عن البيان أن أفكار «الحزب الوطني» وأفكار التيار الذي ينضوي هذا الحزب وأحزاب صغيرة تحت لوائه، تيار «الجامعة الإسلامية»، ليس فيها ما يعبر عن «التطرف الديني العنيف».

الخطأ الرابع، أول مظاهر ما سماه «التطرف الديني العنيف» اعتبار الاحتلال البريطاني لمصر منذ سنة 1882، نوعاً من «العدوان الصليبي». أي

أن رفع هذا الشعار – حسب كلامه – كان رد فعل لهذا الاحتلال!

«تيار الجامعة الإسلامية» و«الحزب الوطني» أيدا التحالف العثماني الألماني السياسي في عهد السلطان عبد الحميد الثاني وفي عهد «الاتحاد والترقي». و«الحزب الوطني» خادن قوة استعمارية، كفرنسا، للاستعانة بها على مقاومة الاحتلال الإنجليزي لمصر، وألمانيا وفرنسا – كما هو معلوم – لا ترفعان شعار «الهلال» بل شارة «الصليب».

هذا الاعتقاد أو – كما عبر هو – هذه الفكرة «امتدت إلى الاعتراض الكامل على الحضارة الغربية في كل صورها وأشكالها، باعتبارها حضارة صليبية معادية للإسلام، وكان كل ما يمثله الغرب عند هؤلاء المتطرفين مرفوضاً ومشكوكاً في أمره».

الأمثلة التي اختارها لامتداد تلك الفكرة (يقصد بالفكرة اعتبار تيار «التطرف الديني العنيف» – حسب تسميته الخاطئة – الاحتلال الإنجليزي لمصر، نوعاً من العدوان «الصليبي» الجديد) وتوسعها، يمكن أن نعدها ثاني وثالث ورابع مظاهر «التطرف الديني العنيف» عنده.

مثاله الأول، «تعليم المرأة وخروجها إلى الحياة العملية خروج على الدين».

«تيار الجامعة الإسلامية» و«الحزب الوطني» لم يكونا يرفضان تعليم المرأة ولا ضد خروج المرأة إلى الحياة العملية. وموقفهما بشكل إجمالي، من حيث الأولويات، أنه بعد حصولها على التعليم، تفرغها لرعاية الأسرة بالكامل مقدم على الانتظام في وظيفة عامة.

وجماعة «الإخوان المسلمين» من نشأتها إلى عام نهاية تحقيبها الزمني عام 1935، لم يعرف عنها أنها معارضة لتعليم المرأة ولا لخروجها إلى الحياة العملية، ولم يعرف عنها ذلك بعد هذا العام، ولا في أي أعوام من تاريخها الطويل.

ثم إن الموقف الرافض لتعليم المرأة والرافض لخروجها إلى الحياة في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين، يختلط فيه السبب الاجتماعي الزمِّيت بالسبب الديني ضيق الأفق. ومن العسير نسبته إلى تيار فكري بعينه، ولا إلى أي تيار هوائي هابط أو صاعد.

مثاله الثاني «دراسة النظريات العلمية الحديثة مثل نظرية داروين في النشوء والارتقاء هو خروج على الدين».

جمال الدين الأفغاني الذي يقف على رأس الفكر الإسلامي الحديث، رفض نظرية التطور لداروين رفضاً شاملاً، وذلك في رسالته «الرد على الدهريين» التي كتبها بالهند باللغة الفارسية. ومن المعروف أن رجاء النقاش لا يدرج هذا الاسم ضمن ما سماه بتيار «التطرف الديني العنيف». ولا يحشره حتى ضمن اتجاه الجمود والتزمت الديني، بل يراه منارة إسلامية عقلانية.

في تاريخ الفكر الإسلامي الحديث في العالم العربي كان هناك موقفان، موقف الرفض الشامل لها وموقف القبول الجزئي بها، وهو الذي يريد أن يوفق بين نظرية الخلق الإلهي ونظرية داروين التطورية.

الموقف الرافض لها يستند إلى كتابات متدينين وفلاسفة وعلماء غربيين. وكذلك هو حال أصحاب موقف القبول الجزئي بها. إن أشهر كتابين عند الإسلاميين يعتمدون عليهما منذ أمد طويل في رفض نظرية داروين، هما كتابان مترجمان من اللغة الإنجليزية: كتاب «العلم يدعو إلى الإيمان» وكتاب «الله يتجلى في عصر العلم».

والحملة المكرسة في الهجوم على نظرية داروين في كتب الإسلاميين بدأت في عقد متأخر من القرن العشرين، هو عقد الثمانينات الميلادية. كتب تتضمن في عناوينها كلمات من مثل «تفنيد» و«تهافت» و«سقوط» و«خرافة» و«مصرع» الدارونية.

ومنذ ذلك العقد أو ربما قبله بسنوات يوضع اسم داروين جنباً إلى جنب مع اسم ماركس وفرويد ودوركايم في المسكوكة الإسلامية الأصولية، تأثراً بالكتاب التخريفي «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي يضع اسم نيتشه عوضاً عن اسم دوركايم.

علماً بأنَّ هذا الكتاب مترجم إلى العربية قديماً. وهذه الملحوظة تستدعي الإشارة إلى ملحوظة أخرى تتصل بالملحوظة الأولى، وهي أنه في أدبيات الإسلاميين لا يركز على تناول فلسفة لودفيغ فيورباخ، بخاصة كتابه «جوهر المسيحية»، كما جرى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين الغربيين الذي هو عندهم أسُّ الإلحاد في القرن التاسع، وأنه مع نيتشه أصلاً تأليه الإنسان.

رفض نظرية داروين الشامل واعتبار الأخذ بها خروجاً على الدين، لا يعتبر – بأي حال من الأحوال – من مظاهر «التطرف الديني العنيف». والقائل بهذا الرأي الديني، سواء أكان مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً، لا يعد متطرفاً دينياً. وللحديث بقية.