علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

تفسير لويس عوض لظهور «إسلاميات» هيكل وطه والعقاد

استمع إلى المقالة

يقول لويس عوض في محاضرته «التطور الثقافي في مصر منذ عام 1952»: «وبازدياد نشاط الأحزاب التوتاليتارية، وخاصة الإخوان المسلمين، أظن أن هذا الدور الذي اضطلع به طه حسين، لا كمفكر، ولكنه إلى جانب عباس العقاد، حاولا أن يدخلا إلى الموروثات، الإسلامية شيئاً من المعقولية، ونوعاً من المنحى العلمي».

وفي فقرة أخرى من المحاضرة أعاد الحديث في تفسيره هذا، فقال: «وأظن أن باستطاعة المرء أن يفسر ذلك بأن يقول أن جميع أعلام الأدب المصري كانوا يحاولون أن يقاوموا بطريقة أو أخرى، كل بوسيلته الخاصة ما كان يحدث دون تعقل في السياسة المصرية. كان ثمة تيار الإخوان المسلمين المتدفق، الذي يحاول أن يدخل عادات من التفكير غير العقلاني إلى العقول المصرية، وكان ثمة هؤلاء الأعلام الكبار يحاولون أن يقاوموا تأثير هذه القوى غير العقلانية في المجتمع المصري، كل بمنهجه: طه حسين بمنهجه الديكارتي، ومحمد حسين هيكل بمنهجه التاريخي، وعباس العقاد بمنهجه النفسي، المنهج النفسي في كتابة التراجم. كان كل منهم بمنهجه الخاص يحاول أن ينحو منحى عقلانياً بالنسبة إلى الدين. طبعاً أنا أذكر جميع هذه الأمور لكي أبين لكم أن تاريخ الفكر العلماني في مصر كان يمر بلحظات حرجة في أوائل الأربعينات، في أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات».

اختلف مترجم محاضرته محمد يوسف نجم مع هذا التفسير، فعلق قائلاً: «لا أدري كيف يتصور الدكتور لويس عوض أن هذه التراجم الإسلامية التي أبرزت عظمة الإسلام ورجاله يمكن أن تؤدي في النهاية إلى الوقوف في وجه دعوة الإخوان المسلمين. الذي أتصوره أنها كانت تأييداً غير مقصود لهذا التيار الذي مثله الإخوان المسلمون والذي بلغوا فيه حد التطرف».

اختلاف محمد يوسف نجم مع تفسير لويس عوض، كما نرى، هو اختلاف تفصيلي بسيط. وهذا ما جعل سامي خشبة في العدد التالي من مجلة «الآداب»، عدد 12 الصادر في 1 ديسمبر يعرِّض به في رده عليه، قائلاً: «من هنا نطرح اختلافنا الجذري مع تعليق الدكتور محمد يوسف نجم (رقم 4 في ص2 من الآداب) حيث نفهم من كلامه أن كتابات الرواد الثلاثة في التراجم الإسلامية كانت تأييداً غير مقصود للإخوان المسلمين أنفسهم. وأخشى أن يكون في نبرة الدكتور نجم تأييد غير مباشر للإخوان المسلمين».

وسأل – باستنكار – أربعة أسئلة استنكارية هي:

«هل كانت كتابات طه حسين والعقاد وهيكل مجرد محاولات لمواجهة تيار الإخوان المسلمين؟ وهل يمكن أن نصف هذا التيار بالفاشية دون محاولة لاكتشاف الدوافع السياسية والفكرية التي أدّت لظهوره؟ وأليس من الواجب أن نبحث عن جذوره الفكرية في قلب الحركة الوطنية سياسياً وحركة الإحياء القومية فكرياً منذ شرع الشيخ محمد عبده في محاولة تطوير الأزهر وتطوير العقلية الإسلامية، جنباً إلى جنب مع عبد الرحمن الكواكبي ثم رشيد رضا ثم العقاد نفسه؟ وهل يكفي – حتى – أن نقول إن محاولات طه حسين والعقاد وهيكل كانت محاولات لإدخال شيء من المعقولية على الموروثات الإسلامية؟ أظن أنَّ المعنى الذي قصده الدكتور المحاضر هو تفسير الموروثات الإسلامية على ضوء المناهج العقلية الحديثة، لأنَّ الموروثات الإسلامية لا تخلو من المعقولية».

محمد محمود عبد الرازق في مقاله «دفاع عن موقف» المنشور في مجلة «الآداب»، العدد الصادر في 1 يناير 1973، الذي أيد كل ما جاء فيها من تهجمات على مسار الثقافة المصرية قبل عام 1952 وبعده، رأى أن ليس ثمة خلاف كبير بين تفسير لويس عوض وتفسير محمد يوسف نجم، بعد أن قال الأخير – متحفظاً – إن هذا التأييد كان تأييداً غير مقصود لتيار «الإخوان المسلمين» المتطرف.

لويس عوض في سيرته الذاتية «أوراق العمر: سنوات التكوين» الصادرة عام 1989، التي كان قد كتب أوراقها في أعوام امتدت من عام 1982 إلى 1986، أعاد قول رأيه في «إسلاميات» محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد الذي قاله في محاضرته، مرة أخرى، في هذه السيرة لكن بصيغة مختلفة.

هذا الرأي الذي قاله مرة أخرى بصيغة مختلفة أتى إثر حديثه المتهكم على تحول منصور فهمي من الثورية إلى المحافظة التي اتخذت – كما عبر – صورة عودة إلى الدين.

الصيغة المختلفة هي قوله: «وقد حدث هذا لأكثر ثوار الفكر في مصر: بدءوا في شبابهم ثواراً في الفكر ثم انتهوا إلى لبس قناع المصالحة مع المؤسسة الاجتماعية: فمحمد حسبن هيكل بدأ بـ(ثورة الأدب) و(جان جاك روسو)، وانتهى بـ(حياة محمد)، و(في منزل الوحي) و(رحلة في الحجاز). وطه حسين بدأ بـ(حديث الأربعاء) و(الشعر الجاهلي)، وانتهى برباعيته الدينية: (على هامش السيرة) و(الفتنة الكبرى) و(علي وبنوه) و(الشيخان)... والعقاد بدأ مثالياً أوربياً، وانتهى بأن بنى لنفسه ضريحاً من العبقريات الإسلامية. وهو نفس ما يفعله الآن (1986) في السنوات العشر الأخيرة توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وعبد الرحمن الشرقاوي أسبوعياً على صفحات (الأهرام) بعد ماض من العلمانية والفكر المتحرر، ونفس ما فعله خالد محمد خالد من قبلهم».

وكان لويس عوض قبلها بمائة وتسع وأربعين صفحة من سيرته الذاتية في أثناء روايته لتجربة تتلمذه على سلامة موسى، حكم بأن العقاد وطه حسين كانا زنديقين، وزكّى سلامة موسى عليهما بأنه صريح في زندقته!

قوله الأول الذي بسطته، وقوله الثاني الذي اختصرته، أغضبا رجاء النقاش واستفزها، وشرع يكتب في مجلة «المصور» مقالات عام 1990، كان أولها مقاله «هل كانوا زنادقة؟!»، المنشور بتاريخ 25 مايو (أيار) 1990، وكان ثانيهما مقاله «الإسلام بين التسامح والتطرف»، المنشور بتاريخ 1 يونيو (حزيران) 1990.

قدم رجاء النقاش في هذين المقالين مرافعات في الدفاع عن قضية اتجاه محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في الإسلاميات، بأنها لا تعدُّ تراجعاً أو نكوصاً عن تجديديتهم وثوريتهم. في إحدى حيثيات مرافعته، قال - معللاً ظهور إسلاميات هؤلاء الثلاثة - ما يلي:

أولاً، «لو أننا ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ الثلث الأول من القرن العشرين وحتى سنة 1935، لوجدنا التفسير الصحيح لاتجاه هؤلاء المفكرين الرواد إلى الدراسات الإسلامية. ففي هذه الفترة من تاريخنا ظهر ذلك التيار الفكري الذي يمكن أن نسميه تيار التطرف الديني العنيف، وكان متأثراً بعوامل كثيرة، منها: الدعوة إلى ربط مصر بالخلافة العثمانية التي أسقطها مصطفى كمال سنة 1924، ومنها اعتبار الاحتلال الإنجليزي لمصر منذ سنة 1882 نوعاً من العدوان (الصليبي) الجديد على المسلمين، وليس لهذا الاحتلال رد إلا برفع راية الإسلام في وجه الإنجليز لتحرير البلاد منهم...».

ثانياً، «وفي هذه الفترة نفسها والتي تمتد من أواخر القرن الماضي وحتى سنة 1935، بدأت تهب على مصر تيارات المذاهب السياسية الحديثة التي شاعت في أوربا وأصبحت لها أنظمة قوية تدافع عنها، وتدعو لها، مثل: الفاشية الإيطالية، والنازية الألمانية، والماركسية في روسيا السوفييتية، كذلك ظهرت في مصر جماعة الإخوان المسلمين، بقيادة الشيخ حسن البنا 1927، وبعد ذلك ظهرت جماعة مصر الفتاة سنة 1933، بقيادة أحمد حسين».

ثالثاً، «وإذا عدنا إلى فترة أبعد في تاريخ مصر فسوف نجد أنها في سنة 1910، وسنة 1911 قد تعرضت لفتنة طائفية خطيرة أوشكت أن تشعل حرباً أهلية حقيقية بين المسلمين والمسيحيين».

تجمع ما بين التعليل الأول والتعليل الثالث، أخطاء مشتركة، وينفرد التعليل الثاني بخطأ يستقل به عن أخطائهما. لنبدأ بتعداد أخطاء التعليل الأول والتعليل الثالث:

الخطأ الأول، «الثلث الأول من القرن العشرين» يمتد من عام 1901 إلى نهاية شهر أبريل (نيسان) عام 1934. وابتداء من 17 سبتمبر (أيلول) 1932، بدأ محمد حسين هيكل ينشر فصولاً من كتابه «حياة محمد» في صحيفة «السياسة الأسبوعية». وابتداءً أيضاً من 15 يناير (كانون الأول) 1933 بدأ طه حسين ينشر فصولاً من كتابه «على هامش السيرة» في مجلة «الرسالة». وفي العام نفسه عام 1933، نشر طه حسين الجزء الأول من هذا الكتاب. وفي 15 يونيو (حزيران) عام 1934، كان محمد حسين هيكل أنهى نشر الفصول في صحيفة «السياسة الأسبوعية» التي اختارها من كتابه «حياة محمد». وفي عام 1935، نشر محمد حسين هيكل كتابه كاملاً.

يستفاد من هذا التفصيل الدقيق أن رجاء النقاش علّل اتجاهاً جديداً في الكتابة، وهو الاتجاه إلى الكتابة في الإسلاميات، عند محمد حسين هيكل وعند طه حسين من خلال مدى زمني مهّد لظهور هذا الاتجاه الجديد لديهما وأرهص به. وحسب التفصيل الدقيق الذي قدمته، فإن المدى الزمني الذي حدده لنا بوصفه علّةً وتعليلاً، شهد في أخرياته ظهور أول إسلاميات محمد حسين هيكل وأول إسلاميات طه حسين! وللحديث بقية.