توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

صناعة الكآبة

استمع إلى المقالة

خصص الصديق الدكتور إياد العنبر مقاله الأسبوعي يوم الجمعة الماضي، لتبرير المنحى التشاؤمي في أحاديثه ومقالاته. والدكتور العنبر متحدث قوي الحجة، ومن الوجوه المرغوبة في قنوات التلفزيون العراقية، فوق أنه أستاذ للعلوم السياسية.

أعلم طبعاً أنَّ دواعي التشاؤم كثيرة في محيطنا العربي. لكنّي أسأل نفسي دائماً: متى كان وضع العرب مثالياً أو خالياً من دواعي التشاؤم؟ فهل نحول صحافتنا إلى مجالس عزاء، وهل نبكي عالمنا الحي كما نبكي الأموات. ما الذي ينفع الأحياء لو بكينا عالمهم أو بكينا موتاهم، ما القيمة التي نضيفها كأصحاب رأي إلى هذه الحياة لو ملأناها بالدموع؟

لكن ثمة جانباً لا يتعلق بالعاطفة أو الموقف الشخصي من الحوادث، أعني به التأثير الخطير للتشاؤم على التماسك الاجتماعي. وهذا الأمر أكثر وضوحاً في حال المجتمع العراقي، الذي يخاطبه الدكتور إياد في المقام الأول.

تعرفت على هذا المجتمع منذ أيام الصبا. وطوال السنوات التالية تعرفت عليه أكثر، على جمهوره العام والكثير من أهل العلم والكتاب والزعماء والسياسيين. ومع اختلاف هؤلاء في المشارب والتوجهات والمواقع، فقد وجدت التشاؤم قاسماً مشتركاً فيما بينهم، وسمة عامة للحديث في مجالسهم.

أعرف مبررات كثيرة، تاريخية وسياسية، تجعل الثقافة العامة للعراق على هذا النحو. لكن هل تساءل المثقفون والزعماء العراقيون عن النتائج التي يمكن أن يفضي إليها هذا التوجه؟

في سبتمبر (أيلول) الماضي كتبت عن «رأس المال الاجتماعي»، وأعيد التذكير بأنه يشير إلى مجموعة الأعراف والمفاهيم المشتركة بين أعضاء مجتمع معين، والتي تشكل أرضية للتفاهم والتشارك فيما بينهم، التشارك في الأعمال والأموال والأفكار. ومن هنا فهي تمهد لفعل جمعي منسجم، يجعل النظام الاجتماعي أكثر فاعلية وكفاءة.

دعنا الآن نتساءل: ما الذي يحصل في المجتمع حين تتلاشى مشاعر التفاؤل ويغدو متشائماً، هل يتعزز «رأس المال الاجتماعي» أم يتلاشى. هل يزدهر العمل الجمعي لتحسين الحياة العامة، أم يحصل العكس، أي انصراف كل فرد إلى التفكير في نفسه والبحث عن حلول لمشكلاته، بل حتى الهروب من واقعه الذي لا يستطيع تغييره بمفرده؟

انظروا إلى واقع العراق، أليس هذا ما ترونه؟ كل الناس يشكون من كل شيء، كلهم يتَّهمون قادتهم ونخبهم وأهل الرأي فيهم، بالتسبب في كل ما حل بالعراق، والنخب تتَّهم السياسيين، وهؤلاء وأولئك يتهمون الناس بالسلبية وعدم القدرة على التعاون أو الصبر أو المشاركة في الحلول إلخ.

أزعم أنَّ صناع الثقافة في العراق، في الماضي والحاضر، قد شاركوا رجال السياسة في تفتيت «رأس المال الاجتماعي»، أي الأساس الضروري للثقة المتبادلة بين الناس، الثقة الضرورية كي يفعلوا شيئاً مفيداً لهم كأمة واحدة، لا كأفراد أو طوائف.

الكتابات والخطابات المتشائمة، وتلك التي لا تحوي سوى التشكيك في كل شيء وكل شخص، ملأت نفوس الناس بالريبة في أي شخص يتولى منصباً، أو يدعي القدرة على التغيير. وهذا سيعيق قطعاً أي تفكير جاد في التغيير أو محاولة للتغيير، ولو في المستوى الأولي. فمن الذي سيضحي أو يرهق نفسه وحياته، إذا كان جزاؤه - أياً كان الحال - هو السخرية والتشكيك بل الاتهام بأنَّه فاشل وعاجز، أو مجرد حرامي أو متسلق أو متسلط أو ذيل للأجنبي؟ وهذه للمناسبة أوصاف شائعة في الساحة العراقية.

إن جواً كئيباً كهذا، سيفضي - دون شك - إلى إفساد السياسة، ثم القضاء على حرية التعبير، وأخيراً تمهيد الطريق لبروز المغامرين الشعبويين، الذين كفاءتهم الوحيدة هي إثارة العواطف والانفعالات، أو إثارة الخوف من الآخر المختلف، أي - باختصار - الأشخاص المراهنين على تفكيك المجتمع وتفتيته.

هل هذا ما يرغب فيه زعماء العراق ونخبته وصناع الرأي من أهله؟

إن كانوا يرغبون في غير هذا، فليكفوا عن نشر التشاؤم. هذا هو الوقت الذي يصح فيه تماماً، المثل الصيني: بدل أن تلعن الظلام أضئ شمعة.